الأستاذ محمدٌ ولد إشدو: في "شعراء البلاط"* (ح2)

سبت, 04/29/2017 - 18:31
 الأستاذ محمدٌ ولد إشدو: في "شعراء البلاط"* (ح2)

"ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح؟"

بيت قصيدة قذفت بصاحبها النابغ الذي لم يكن شيئا مذكورا في البلاط الأموي أيام عزه، كما قذفت اتهيدينت "تفرغ زينة" براعي الخيل الأقرع في بلاط أولاد امبارك كأعظم شاعر حساني بعد أن باركه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام! ويعتبر هذا البيت في عصره أمدح بيت قالته العرب.

ورغم أن جريرا لم يكن شاعر العصر الأموي الوحيد؛ بل كان هناك شعراء عمالقة مفلقون احتدم الصراع بينه وبينهم - كما احتدم الصراع بين سدوم وأهل آگمتار الجالسين يومئذ على عرش الفن في بلاط الإمارة - على نيل قصب السبق كالفرزدق والأخطل. ولم يكن غيلان والراعي والأحوص ببعيد. كان الفرزدق شاعر المعارضة الهاشمية:

ما قال لا قط إلا في تشهده ** لولا التشهد كانت لاؤه نعم

وكان الراعي والأحوص من شعراء البلاط الأموي. ومن جهة ثالثة كان يطل شاعر العصر وعالمه عمران بن حطان، شاعر الخوارج المفلق الذي أقصاه التطرف عن التصنيف، ثم محا ذكره نهائيا.

ورغم ازدهار الأدب في هذا العصر وكثرة فحوله ودعم المعارضة للفرزدق والكميت والخوارج لعمران والمضرية والقحطانية لشعرائهما، فقد ظل جرير آنف ذكر المحتد شاعر البلاط الأموي الأول متربعا على العرش، لم يضره أصله الوضيع في مواجهة أبناء الملوك، ولا نال مِن سَبْقِه ومكانته وإبداعه كونه شاعر بلاط تحتدم الفتن والحروب من حوله.. بل على العكس من ذلك. لقد رفعه الباب الأموي العالي إلى مقام الخالدين إلى يوم الدين، رغم دسائس ومؤامرات ونقائض خصومه الشعراء ومعارضي حزبه.

وفي العصر العباسي كانت عمورية، وكان المعتصم، وكان أبو تمام! صرخت إحدى السبايا "وا معتصماه" فلامست صرختها نخوة المعتصم فأعلن النفير!

نهى المنجمون المعتصم عن غزو الروم كما نهى بعض ساستنا الرئيس عن غزو وتدويخ الإرهابيين، وقالوا إن الساعة ساعة نحس لا ينبغي الغزو فيها. وقال المعتصم إنه لن ينثني عن غزو الروم ونجدة رعاياه وتأمين ثغور الدولة الإسلامية الكبرى مهما كلف الثمن. وفعلا غزا الروم فهزمهم وانتصر عليهم. فقال أبو تمام رائعة ملحمة عمورية:

السيف أصدق إنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب

***

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ** نظم من الشعر أو نثر من الخطب

فتح تُفَتَّح أبوابُ السماء له ** وتبرز الأرض في أثوابها القُشُب

***

كم بين حيطانها من فارس بطل ** قاني الذوائب من آني دم سرب

بسنة السيف والخطي من دمه ** لا سنة الدين والإسلام مختضب

***

ما ربع مية معمورا يطيف به ** غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب

ولا الخدود وقد أدمين من خجل ** أشهى إلى ناظري من خدها الترب

***

لو لم يقد جحفلا يوم الوغى لَغَدا ** من نفسه وحدها في جحفل لجب

رمى بك الله برجيها فهدَّمها ** ولو رمى بك غير الله لم يصب

***

لم ينفق الذهبَ المربي بكثرته ** على الحصى وبه فقر إلى الذهب

إن الأسود أسُودَ الغيل همتها ** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

ولى وقد ألجم الخطي منطقه ** بسكتة تحتها الأحشاء في صخب

***

إن كان بين صروف الدهر من رحم ** موصولة أو ذمام غير منقضب

فبين أيامك اللائي نُصرت بها ** وبين أيام بدر أقرب النسب

وفي ظل الدولة العباسية المتداعية قامت دولة بني حمدان الأبية في حلب في مواجهة ومقارعة أطماع الروم، تتصدى لهم وتغزوهم وتنتصر عليهم. وقد خلقت بطولات الحمدانيين وصمودهم نفيرا رائعا في صفوف الأمة كان من تجلياته نبوغ المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وتربعه على عرش الشعر في بلاط سيف الدولة. ذلك التربع الذي سما بدولة بني حمدان إلى مصاف الدول الكبرى رغم صغر حجمها:

فلله وقتٌ ذَوَّبَ الغش ناره ** فلم يبق إلا صارم أَو ضُبارِم

تقطع مالا يقطع الدرع والقنا ** وفر من الأبطال من لا يصادم

وقفت وما في الموت شك لواقف ** كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ** ووجهك وضاح وثغرك باسم!

فهل أزرى بلاطا المعتصم وسيف الدولة بأبي تمام والمتنبي، رغم ما زخر به العصر العباسي من فحول الشعراء؟

نترك الجواب على هذا السؤال الغريب لابن خلكان وابن رشيق القيرواني والواحدي والأخطل الصغير:

يقول ابن خلكان في وفيات الأعيان:

كان حبيب بن أوس أبو تمام "وحيد عصره في ديباجة ونصاعة شعره وحسن أسلوبه، وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله وإتقان معرفته بحسن اختياره، وله مجموع آخر سماه فحول الشعراء، جمع فيه بين طائفة كبيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين، وله كتاب الاختيارات من شعر الشعراء، وكان له من المحفوظ ما لا يلحقه فيه غيره، قيل إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع، ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم، وجاب البلاد".

ويقول ابن رشيق القيرواني في العمدة: "وليس في المولدين أشهر اسما من الحسن أبي نواس، ثم حبيب والبحتري، ويقال إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز.. ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس".

ويقول الواحدي في شرحه لديوان المتنبي: "الناس منذ عصر قديم قد ولوا جميع الأشعار صفحة الإعراض؛ مقتصرين منها على شعر أبي الطيب المتنبي، نائين عما يروى لسواه وإن فاته وجاز في الإحسان مداه. وليس ذلك إلا لبخت اتفق له فعلا فبلغ المدى وقد قال هو:

هو الجد حتى تفضل العين أختها ** وحتى يكون اليوم لليوم سيدا

على أنه كان صاحب معان مخترعة بديعة ولطائف أبكار دقيقة منها ما لم يسبق إليه. ولقد صدق من قال:

ما رأى الناس ثاني المتنبي ** أي ثان يرى لبكر الزمان

هو في شعره نبي ولكن ** ظهرت معجزاته في المعاني".

ويقول الأخطل الصغير بشاره الخوري في شهادته الشعرية من قصيدته في حلب التي سنختم بها هذه الحلقة والتي مطلعها:

نفيت عنك العلا والظرف والأدبا ** وإن خلقت لها إن لم تزر حلبا

إلى أن يقول:

ما جَرَّدَ الدَّهْرُ سَيْفاً مِثْلَ "سَيْفِهِمُ"‏‏‏ ** يُجْري بِهِ الدَّمَ أَوْ يُجْري بِهِ الذَّهَـــبا‏‏‏

رَبُّ القَوافي عَلى الإِطلاقِ شاعِرُهُمْ‏‏‏** الخُلْدُ والمَجْدُ في آفاقِهِ اصْطَــــــحَبا‏‏‏

‏‏‏‏ سَيْفانِ في قَبْضَةِ الشَّهْباءِ لا ثُلِما‏‏‏ ** قَدْ شَرَّفا العُرْبَ بَلْ قَدْ شَـــــرَّفا الأَدَبا

عُرْسٌ مِنَ الجِنِّ في الصَّحْراءِ قَدْ نَصبَوا‏‏‏ ** لَهُ السُّرادِقَ تَحْتَ الَّليْلِ وَالقبَبا‏‏‏

كَأَنَّهُ تَدْمُرُ الزَّهْــــــــــراءُ مارِجَةً‏‏‏ ** بِمِثْلِ لسْنِ الأَفاعي تَقْذِفُ اللَّـــــــــهَبا‏‏‏

يا مُلْبِسَ الحِكْمَةِ الغَرَّاءِ رَوْعَتَها‏‏‏ ** حَتَّى هَتَفْنَا: أَوَحْيًا قُـــــــــــلْتَ أَمْ أَدَبا‏‏‏!

كأَنَّما هِيَ أَصْداءٌ يُــــــــــــرَدِّدُها‏‏‏ ** هذا إِذا بَثَّ، أَوْ هذا إِذا عَــــــــــــــتَبا‏‏‏

قالوا اسْتَباحَ أَرسْطو، حينَ أَعْجَزَهُمْ ** وَإنَّهُ اسْتَلَّ مِنْ آياتِهِ النُّـــــــــخَبا‏‏‏

مهْلاً، فَما الدَّهْرُ إِلَّا فَيْضُ فَلْسَفَةٍ‏‏‏ ** يَعــــــــــــــودُ بِالدُّرِّ مِنْهُ كُلُّ مَن دَأَبا‏‏‏

مَنْ عَلَّمَ ابْنَ أَبي سُلْمَى "حَكيمَتَهُ"‏‏‏ ** وَقُسَّ ساعِـــــدَةَ الأَمْثالَ وَالخُطَبا؟‏‏‏

____________________

* "بلاط الملك" أي قصره، ومجازا مجلسه وزعماؤه (ص 48 من المنجد).