حين يكون السلطان حاكِماً بأمر الله!

جمعة, 06/30/2017 - 17:12
حين يكون السلطان حاكِماً بأمر الله!

المصادرة لم تعد تقتصر على حرية الإنسان ومعتقده، بل طالت الدين نفسه، فصادرت السلطةُ الدينَّ نصاً وتفسيرا وتأويلاً وتبشيراً به، ووظّفته لصالح سردية تخدم حكم الفرد وتسلّطه وتألّهه.

وهي دائماً ما كانت تفرض القراءة المناسبة لها على الناس.

نجد أن السّلطة العربية صادرت حق الإنسان في الاختلاف، وحقه في حرية الاعتقاد وفي حرية الولاء السياسي وفي حرية التفكير والتعبير

تذهب الدراسات الإجتماعية إلى أن عافية مجتمع ما، وتماسكه، ووجود قدر أدنى مشترك من الحسّ الوطني بين أفراده، هي عوامل مرتبطة بمدى وعي الفرد بهويّته الخاصة، ودرجة حيويّة المجتمع في تفاعلاته الداخلية، ومساحة الحرية الُمتاحة بين قواه الداخلية.

والدارِس لواقع المجتمع العربي الراهن يجد، أغلبه أو كله، لا يزال يعيش حال المجتمعات البشرية ما قبل الدولة الحديثة، فهو لم يهضم إلى الآن الآليات التي تقفز بالمجتمعات إلى حال الاستقرار والإنتاج على الصُعد العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وذلك لأسباب متنوّعة ومُتداخلة، فمنها السياسيّ ومنها الاجتماعيّ ومنها التاريخيّ.

‏وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا تزال بعض النُظم السياسية في العالم العربي، تجرّم وجود الأحزاب السياسية وتبرّر حظرها بأنها سبيل إلى التناحُر والتخاصُم والتمزّق في المجتمع، إن الإسلام حرّم الأحزاب، وفرض على الناس الطاعة والولاء والاصطفاف خلف صاحب السلطة، وعدم مزاحمته في تدبيره شؤون الدولة والمجتمع مهما ارتكب من أخطاء أو وقع في موبقات ما لم يرَ الناس منه جهاراً كفراً بواحاً، لا سبيل لأحد إلى تأويله.

وإذا دقّقنا النظر في هذه الحجّة لتفكيكها، نجد أنها تبني نفسها على مسلّمات يقينية غير قابلة للنقاش، منها: تحريم الإسلام للأحزاب لأنها سبيل إلى الاختلاف والتناحُر والانقسام. الاختلاف هو شرّ مُطلق وقد حذّر الإسلام منه. لا يسع المرء إلا الطاعة للسلطة وعدم مساءلتها في أيّ شأن عام أو خاص.

وإذا ما ناقشنا هذه المسلّمات نجد أن القرآن يقرّر أن الاختلاف سنّة كونيّة واجتماعية. وهي جزء أصيل في الطبيعة البشرية. فهناك الاختلاف في الأشكال والألوان واللغات والعقول. قال تعالى: ﴿وَمِن ءَايَٰتِهِۦ خَلقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَٰفُ أَلسِنَتِكُم وَأَلوَٰنِكُم إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰت لِّلعَٰلِمِينَ﴾ [الروم: 22].

والاختلاف في العقول والمفاهيم ينتج منه بالضرورة تباين في التصوّرات والمقاربات والأحكام حتى في الأمور المتّفق على أصولها وثبوتها. وليس بالضرورة أن يؤدّي الاختلاف إلى التناحُر والإقتتال قال تعالى: ﴿وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّة وَٰحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم ﴾ [هود:118- 119].  وقال تعالى: ﴿ وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَٰمِعُ وَبِيَع وَصَلَوَٰت وَمَسَٰجِدُ يُذكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].

ومع إقراره مبدأ الاختلاف والتنوّع بين البشر تبعاً للاختلاف والتنوّع القائم بين سائر الموجودات، يقرّ القرآن الكريم مبادئ أخرى لا يجوز إسقاطها أو إهمالها حين النظر في السنن الكونية والاجتماعية لبني البشر، مثل أن الأصل الجامع والمشترك والمتساوي فيه الجميع هو "الإنسانية" التي لا تُجزّأ، ولا تختزل، ولا تهدر تحت أيّ ظرف. قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَٰكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ [الحجرات: 13].

ويحدّد الإسلام بعد ذلك معايير ثابتة في التعامل مع هذا الاختلاف، بما يعود بالنفع العام على الإنسانية جمعاء. فالحرية مكفولة للإنسان أياً كان دينه وعرقه ومذهبه الفكري والسياسي. وقد قرّر القرآن الحق الأصيل للإنسان في الاختيار والاعتقاد، مصداقاً للآية الكريمة: ﴿لَا إِكرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشدُ مِنَ ٱلغَيِّۚ فَمَن يَكفُر بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱستَمسَكَ بِٱلعُروَةِ ٱلوُثقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]. ففرض الدين على الناس لا يكون بالإكراه مهما بلغت حجّته من القوة، كما أن حرية القول هي من حرية الاعتقاد، ولا دين يمكن أن يحيا في ظلّ القمع والإكراه عليه. قال تعالى:" ﴿وَقُلِ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر ﴾ [الكهف: 29].

وعند حدوث التقابل بين الطروحات المختلفة أمر بالحسنى في الحوار وعدم فرض الرأي الآخر بالقهر والقوة، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهلَ ٱلكتابِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنهُم وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُم وَٰحِد وَنَحنُ لَهُۥ مُسلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46].

وإذا ما أردنا تنزيل هذه الأصول على واقعنا العربي، نجد أن السّلطة صادرت حق الإنسان في الاختلاف، وحقه في حرية الاعتقاد وفي حرية الولاء السياسي وفي حرية التفكير والتعبير، وكان لسان حالها المجتمع صنفان: صاحب السلطة والقوة فهو الحاكم، وهو المشرّع، وهو الآمر الناهي، لا رادّ لقوله، ولا معقّب لحكمه. له الحق في مصادرة الأنفس والعقول والأموال. وصنف آخر هو المحكوم، لا يملك من أمره شيئاً. لا حقّ له في التفكير، ولا في الاعتقاد، ولا في الفعل، ولا في القول.

المصادرة لم تعد تقتصر على حرية الإنسان ومعتقده، بل طالت الدين نفسه، فصادرت السلطةُ الدينَّ نصاً وتفسيرا وتأويلاً وتبشيراً به، ووظّفته لصالح سردية تخدم حكم الفرد وتسلّطه وتألّهه. وهي دائماً ما كانت تفرض القراءة المناسبة لها على الناس. فقراءتها شرعية دائمة وقراءة مخالفيها ومعارضيها انحراف وتنطع وضلال. لقد وُظّف الدين توظيفاً سيّئاً في التاريخ الإسلامي، ولا يزال موظفاً عند من يملك القوة. وطالما أن فكرة العقد الاجتماعي بين السلطة والشعب غائبة في عالمنا العربي بحجج وذرائع مختلفة، فلا أمل في مجتمع مستقر، ولا في نهضة اجتماعية حقيقية تضع العرب على خارطة الحضارات المعاصرة.