أردوغان ونهاية حلم السلطان

أربعاء, 12/28/2016 - 17:29
أردوغان ونهاية حلم السلطان

كشف اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف –الذي قتل بطلق ناري ظهر الاثنين 19 كانون الثاني/ديسمبر- وأياً يكن الانتماء السياسي لقاتله، التناقض العميق للسياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

كيف حدث أن انصاع "السلطان" الجديد، الذي كان يعتبر حتى وقت قصير بطل الإسلام السني محلياً وخارجياً على حد سواء، وبات حليفاً في ائتلاف روسي إيراني يعلن نفسه، لأسباب إيديولوجية أو قومية، بطلاً للقضية الشيعية على حساب السنة العرب الذين يشهدون أوضاعاً غاية في السوء؟ في الواقع، فإن تركيا تحت حكم أردوغان، وبعد تخليها البطيء عن النموذج الكمالي الذي كان يراهن كلياً على العلاقة مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لم تنجح على الإطلاق في تحديد سياسة خارجية مستقرة ومتماسكة. لم يتوقف الرئيس التركي عن تقديم ترشيح بلاده للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ومحاولة تحويلها في الوقت نفسه إلى قوة كبيرة في المنطقة. ولكن أية "منطقة" وعلى أي أساس؟

البحث عن النفوذ

تحت قيادة أحمد داود أوغلو (وزير الخارجية 2009-2014)، تحركت الدبلوماسية التركية وركزت كل جهودها على القوقاز والبلقان والدول العربية لمحاولة خلق فضاء للنفوذ مع فكرة "صفر أعداء" (ومن هنا جاءت محاولات التقارب مع أرمينيا، وحتى مع صربيا، والعلاقات الوثيقة مع كردستان العراق). كان هذا فضاء الإمبراطورية العثمانية السابقة، وقد تضمنت محاولة حيازة النفوذ تلك عودة أوتوماتيكية للتنافس القديم مع إيران، خاصة في أذربيجان وأرمينيا، وكذلك توترات مع روسيا التي كانت تراقب أنقرة بقليل من الرضا وهي تتمدد في الفضاء الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي.

الامبراطوريات لا تموت ببساطة. كانت سياسة النفوذ تجاه الدول مدعومة على مستوى المجتمعات بواسطة الاختراق الملحوظ للشركات التركية (وخاصة الصغيرة والمتوسطة منها)، وعبر توسيع شبكة مدارس الداعية غولن (التي أنشئت من ألبانيا وحتى أذربيجان مروراً بجورجيا المسيحية جداً) وكذلك من خلال تدريب رجال الدين المحليين تحت سلطة "الديانيت" وهي المؤسسة الرسمية التي تعتني بالشؤون الدينية ويقودها رئيس الوزراء التركي. كان هذا التآزر فعالاً جداً خلال عدة سنوات، لكن سياسة "حسن الجوار" حُطمت مع الربيع العربي (2011)، وخصوصاً مع الانتفاضة في سوريا.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، أعلنت تركيا عملياً الحرب على نظام بشار الأسد وشرعت في دعم المعارضة السنية. في الوقت نفسه، سمح فوز الإسلاميين في الانتخابات التونسية والمصرية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بتقديم نفسه كما لو كان "الأخ الأكبر" للإخوان المسلمين من جميع المشارب، والذين عمّدوا في كل مكان تشكيلاتهم السياسية الجديدة بمصطلحي "العدالة" و"التنمية" كما هو حال الحزب التركي. تخطّت تركيا إذاً "سياسة الجوار" نحو استراتيجية كبرى شرق أوسطية، عربية على وجه الخصوص وجعل أردوغان من نفسه بطل قضية العرب السنة، من غزة إلى حلب، لا سيما وأن ما وقع لأسطول غزة في أيار/مايو 2010 دفعها إلى التشكيك في تحالفها التقليدي مع إسرائيل.

بطل السنّة

وجرى هذا التموضع التركي في الدفاع عن الإسلام السني بشكل يتماشى تماماً مع السياسة الداخلية التركية التي أعادت في ظل حزب العدالة والتنمية تعريف الهوية الوطنية بالإسلام السني على حساب الانتماء العرقي. انفتحت الحكومة التركية على "حقيقة الوجود الثقافي" الكردي (فسمحت لهم باستخدام اللغة الكردية) لكنها ركزت على الانتماء الديني المشترك. بالنسبة للأقليات المسيحية، كانت حكومة العدالة والتنمية أفضل بما لا يقاس من سابقاتها الكمالية، فأعادت الأراضي المصادرة إلى دير مار جبرائيل وحذفت خانة الدين من بطاقات الهوية وسمحت بالاستخدام العلني للغات الطقوس الدينية... إلخ، لكنها رفضت أي اعتراف بالعلويين (أقلية دينية قريبة من الإسلام، السني بالضرورة). حينها بات الحديث ممكناً عن "العثمانية الجديدة" أو حتى عن سياسة "إسلامية" يقودها الرئيس الذي يحلم أن يكون السلطان الجديد.

المشكلة الآن هي أن التحالف المفاجئ مع إيران وروسيا يناقض المرجعيتين العثمانية والإسلامية. لطالما كانت علاقات العثمانيين متوترة مع الإيرانيين والروس، وكانوا دائماً يلجؤون إلى السنّة للدفاع عن الإمبراطورية من شبه جزيرة القرم إلى ليبيا (ليس من قبيل الصدفة أن يعتمد السلطان سليم لقب "الخليفة"، الذي كان قد أهمل، عام 1517، أي العام الذي أصبح فيه المذهب الشيعي الدين الرسمي لدولة فارس العدوة). أخيراً، فإن واحدة من مفارقات رد الفعل العنيف التي تلت الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو 2016 كانت قيام الحكومة التركية بنفسها بتفكيك شبكات غولن في الخارج، كالمدارس والجمعيات والمساجد ولكن أيضاً الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت قد ضمنت تأثيراً ثقافياً واقتصادياً تركياً دون أن يكلف الدولة شيئاً وغالباً ما كان ارتباطه بعيداً عن الأخوّة الإسلامية.

ولكن أيضاً فمن المنطقي جداً أن انضمام أنقرة إلى محور طهران-دمشق-موسكو سيتسبب في إيقاف دعمها (أو تخفيضه) للسنة السوريين، وهو ما أدى إلى سقوط حلب التي كانت تركيا وحدها من يقدر على منعه (تخلى باراك أوباما عنها منذ زمن طويل والأوروبيون لا يملكون لا الإرادة ولا الإمكانيات). هذا التقارب سيعني أيضاً وبالتوازي تقارباً مع إسرائيل. باختصار، فقد تخلت أنقرة عن العرب السنة وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. لم يعد هناك أي شيء إسلامي في السياسة الخارجية التركية.

المطامع الكردية

لماذا هذا التحول؟ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعة معقدة من الأسباب. أولاً، فشلت خطة الإخوان المسلمين: فهم قد انضووا في تونس (وبقية المغرب العربي) ضمن المشهد السياسي الوطني ولم يعودوا في حاجة إلى الرعاية التركية، أما في مصر، فقد أدى القمع إلى إزاحتهم ولو مؤقتاً عن الساحة السياسية. ولكن كذلك وعلى الأخص فقد باتت التحركات الوحدوية الكردية هاجساً للحكومة التركية. سمحت الحرب السورية لأكراد سوريا (يجب التذكير أن أكثر من مليون منهم لم يكن يتمتع بوجود قانوني بالنسبة للدولة السورية) في أن يصبحوا إحدى القوى العسكرية والسياسية السورية الكبرى بدعم من الولايات المتحدة.

ومع ذلك، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي المهيمن ليس سوى فرع لحزب العمال الكردستاني الذي اعتقد مخطئاً ربما أن الأزمة السورية تشكل فرصة للعودة إلى السلاح في تركيا في وقت كان فيه حزب العدالة والتنمية قد انغمس في مسار فوضوي من المفاوضات. لكن استئناف الأعمال العدائية داخل تركيا قد عاد بالفشل العسكري وربما السياسي على حزب العمال الكردستاني، الذي حاول عبثاً إنشاء مناطق محررة في المدن دون أن يحظى بأي دعم أو تحرك شعبي.

لكن الضرر قد وقع وطالت حملة القمع حزب الشعوب الديمقراطي، الجناح السياسي للحركة الكردية، الذي لم يتمكن من إقناع أحد باستقلاله عن حزب العمال الكردستاني. لن يؤدي استئناف الهجمات ضد أجهزة الدولة إلا إلى تغذية التصعيد في تركيا. وأخيراً، فقد شكل نصر كوباني عام 2015 نقطة تحول بالنسبة لأنقرة.

بارانويا معادية للولايات المتحدة

على الرغم من أن التوتر مع موسكو كان قد بلغ ذروته في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بعد أن أسقط سلاح الجو التركي طائرة عسكرية روسية – في هجوم ينسب اليوم إلى... طيارين تابعين لغولن!- فإن شروط تحول أنقرة كانت جاهزة. لعبت محاولة انقلاب تموز/يوليو 2016 دوراً مسرعاً رغم أن كثيراً مما وقع خلاله ما زال غامضاً. من وجهة النظر التقنية وحدها، فإن عمليات التطهير المدهشة في الجيش (وخاصة الأسلحة "التقنية" كسلاح الجو) والأجهزة الأمنية يجعل الجيش التركي عاجزاً عن لعب دور حاسم في شمال سوريا، وبالتأكيد ليس في مواجهة التحالف الروسي الإيراني (هذا ما وقع بعد عمليات التطهير عام 1937 للجيش الأحمر السوفيتي الذي بات ضعيفاً حتى في مواجهته مع بلد صغير كفنلندا عام 1939).

يمكننا أيضاً أن نشير إلى بارانويا معادية للولايات المتحدة حيث يتهم باراك أوباما بدعم كل من فتح الله غولن، الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة منذ عام 1999، والأكراد، أي عدوا أردوغان اللدودان. يمككنا أخيراً بكل بساطة أن نعزو التحول التركي العنيف إلى نزعة تشاؤمية استراتيجية تعود بها إلى وسائل السياسة الواقعية القديمة الجيدة. على أي حال، فقد تخلت تركيا فجأة عن المنتفضين العرب السنة السوريين وتركتهم لمصيرهم بعد أن استخدمتهم لمنع أكراد سوريا من احتلال الأرض، وتركت كذلك على الخصوص حلب، المدينة العثمانية فيما مضى، ليتم تدميرها بواسطة الطيران الروسي والقوات الشيعية. إن ما مات في حلب هو الحلم العثماني الجديد والتضامن السني.

هذا ما جاء اغتيال السفير الروسي للتذكير به، على الرغم من أنه لم يصل إلى حد التشكيك بأردوغان نفسه. وسيتردد صدى هذا التخلي عما كان يشكل إلى حد كبير مخيال النظام في تركيا بين نشطاء الحزب أو حتى، وخصوصاً، بين الناخبين العاديين لحزب العدالة والتنمية. بالتأكيد فإن كثيرين سيترددون في استقبال اللاجئين السوريين (والأمر يتعلق بالملايين منهم في تركيا)، ولربما يترددون أيضاً في الموت من أجل حلب. لقد كان من المعلوم كذلك أنه لا وجود لدبلوماسية "إسلامية" وأن تبرير رفض خوض مغامرة خارجية بحجة المصالح الوطنية كان سيفهم بكل تأكيد، غير أن رمي التضامن الإسلامي والإرث العثماني جانباً بجرة قلم سيضر بصورة السلطان ويترك الباب مفتوحاً أمام مسألة إعادة تحديد دور تركيا في المنطقة.

نشر النص في جريدة "لوموند" 27 كانون الثاني/ديسمبر 2016
أوليفييه روا – مدير أبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية وأستاذ في المعهد الأوروبي في فلورنسا

القسم: