في السادس من شهر ابريل القادم ستحل بنا الذكرى الثالثة والعشرين لواحدة من أبشع المذابح في القرن الماضي، ومن أسرعها قتلا، حيثُ قتل ما يزيد على 800 ألف شخص في مائة يوم فقط، أي أنه ـ وحسب لغة المتوسطات ـ فقد كان يقتل في كل يوم 8000 شخص، وفي كل ساعة 333،
وفي كل دقيقة من هذه المائة اليوم كان يقتل ما يزيد على خمسة أشخاص.
هذه المذبحة البشعة حدثت في رواندا بعد ليلة السادس من ابريل من العام 1994، والتي تم فيها قصف طائرة الرئيس الرواندي آنذاك "جوفينال هابيريمانا" وقتل كل من فيها، وقد أنحى متشددو الهوتو باللائمة على الجبهة الوطنية المتمردة، في حين قالت الجبهة الوطنية المتمردة إن الهوتو هم من أسقط الطائرة، وذلك بحثا عن ذريعة يبررون بها ارتكاب جريمة إبادة ضد التوتسي.
بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من إسقاط الطائرة بدأت عمليات القتل والتطهير العرقي، فأطلقت المحطات الإذاعية لنشر الكراهية وللحث على التخلص من "الصراصير التوتسيين"، ونشرت القوائم بأسماء المستهدفين، واستخدمت المناجل والمطارق والسيوف في عمليات القتل، وقتل من احتمى بالكنائس، ووصل الأمر إلى أن أصبح الزوج يقتل زوجته!
هذه الإبادة البشعة نحن اليوم بحاجة إلى تذكرها، وإلى الحديث عنها، وإلى أخذ الدروس والعبر منها، وهناك ثلاثة دروس قد يكون استحضارها في مثل هذا الوقت هو أمر في غاية الأهمية.
الدرس الأول
لقد أصبح الكثير من الناس يعتقد بفعل ما يشاهد من مجازر وإرهاب وفتن بين المسلمين بأن الفتن والإرهاب والمجازر لا تحدث إلا بين المسلمين، ولقد لعب الإعلام دورا كبيرا في ترسيخ هذا الاعتقاد الخاطئ. ومع أن هناك أمثلة عديدة يمكن من خلالها تفنيد هذا الاعتقاد الخاطئ، إلا أن الحالة الرواندية ستبقى هي خير مثال.
لقد ارتكب الهوتو وهم يمثلون 85% من مجموع سكان رواندا، ويمثلون في الوقت نفسه أغلبية الكاثوليك الذين وصلت نسبتهم في رواندا في تسعينيات القرن الماضي إلى 46% إبادة ضد التوتسي الذين يمثلون نسبة 14% من سكان رواندا، ويشكلون في الوقت نفسه أغلبية البروتستانت الذين وصلت نسبتهم في نفس الفترة إلى 26%.
هذه الإبادة الجماعية لم يسلم منها من احتمى بالكنيسة من التوتسي، بل إن بعض رجال الكنيسة قد شاركوا هم بأنفسهم في هذه الإبادة، وفي هذا الإطار فقد أكدت محكمة جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة من مدينة أروشا في تنزانيا عام 2000 تورطَ الكنيسة وتوفيرَها غطاءً لعمليات القتل، وقد حكمت هذه المحكمة على رجل دين كاثوليكي يُدعى "الأب أتانازي سيرومبا" بالسجن 15 عاما وذلك بسبب مطالبته للميليشيا المسلحة بهدم كنيسته على 2000 من التوتسي كانوا قد احتموا بها خوفا من القتل.
الأقلية المسلمة والتي لم تكن تصل نسبتها في تلك الفترة إلى 1% من مجموع السكان، لم تشارك في هذه الإبادة، بل على العكس من ذلك، فقد وفرت هذه الأقلية الحماية لكل من لجأ إليها من التوتسي، فكانت المساجد هي الأمكنة الأكثر أمانا في رواندا، وكان مما يقوله الروانديون في تلك الفترة هو أن من دخل المسجد فقد أمن، ومن دخل الكنيسة فإنه سيقتل.
هذه الإبادة الجماعية البشعة والتي ارتكبها مسيحيون ضد مسيحيين، وكان المسلمون يتولون فيها حماية من يلجأ إلى مساجدهم من المسيحيين هي من الأمور التي علينا أن نستحضرها في مثل هذا الوقت الذي يقتل فيه المسلمُ المسلمَ في العراق واليمن وسوريا وليبيا وفي بلدان مسلمة أخرى، الشيء الذي عزز من الصورة النمطية التي رسمها الإعلام في أذهان العديد من الناس، والتي تقول بأن الإرهاب والعنف والمجازر لا يرتكبها إلا المسلمون.
الدرس الثاني
هذا البلد الذي عرف مثل هذه الإبادة البشعة قد استطاع وفي وقت قصير نسبيا أن يلملم جراحه، وأن يتجه إلى التنمية. ففي سنوات قليلة أصبحت رواندا من دول العالم الأقل فساداَ وهي اليوم من بين ثلاثة دول تعد من أفضل الواجهات الاستثمارية في إفريقيا، وفي مجال النمو الاقتصادي فإنها تسير بمتوسط نمو من أعلى المتوسطات في العالم، وقد زاد في بعض السنوات على 7%.
وتنافس شوارع تيجالي عاصمة رواندا من حيث نظافتها شوارع أهم العواصم الأوروبية، كما تنافس بعض مراكزها التجارية كبريات مراكز التسوق في أوروبا، وعلى المستوى السياسي فإن هذه الدولة التي اغتصبت فيها خلال فترة الإبادة ما يقدر ب 150 إلى 250 ألف امرأة تمتلك اليوم برلمانا يزيد فيه عدد النساء على الرجال، ويعتبر البرلمان الأكثر تمثيلا للنساء في العالم.
هذه القفزة الكبيرة التي تحققت بعد جريمة إبادة تعد هي الأبشع من نوعها قد يكون استحضارها في مثل هذا الوقت مهما، وذلك حتى لا تفقد الشعوب العربية في سوريا والعراق واليمن وليبيا إلى بقية اللائحة الأمل في إمكانية إيقاف الحروب الأهلية التي تجري في بلدانها.
الدرس الثالث
لقد لعب الشعب الرواندي دورا بارزا في المصالحة بين القتلة والناجين، ولقد أنشئت محاكم "غاتشاشا" التي كانت تخفف أحكامها إذا ما أعلن الشخص عن توبته والتمس من بعد ذلك التصالح مع المجتمع. صحيح أن رواندا ما تزال تعاني من مشاكل سياسية ومن تحديات في نسيجها الاجتماعي، ولكن الصحيح أيضا هو أن هناك خطوات كبيرة تم قطعها في مجال المصالحة والتنمية، وما كان ذلك ليتم لولا الدور البارز الذي لعبه المجتمع. إن الدرس الذي يجب على الشعوب العربية التي تتعرض بلدانها لحروب وفتن أن تتعلمه من الحالة الرواندية هو أن هذه الفتن والحروب الداخلية لن تتوقف إلا إذا كانت هناك إرادة مجتمعية جادة تسعى لإيقاف تلك الحروب وإلى تجاوز آثارها والدخول من بعد ذلك في مرحلة جديدة يتم التركيز فيها على بناء مستقبل أفضل.
تنبيه : أعتذر عن الغياب عن الكتابة في الشأن المحلي خلال الأيام الأخيرة، وأرجو أن تكون العودة قريبة بإذن الله.
حفظ الله موريتانيا..
بقلم/ محمد الأمين ولد الفاضل