سيدي الرئيس:
إن الأسس المنطقية قد تتغير قليلا بزوايا مختلفة حسب الأحوال، غير أن منطق الأشياء عصي على الاختلاف أو التضاد، أحرى التضارب.
استدعى هذه الخاطرة أمر إعادة تعيين المفسدين في مناصب حساسة، ومحاولة صرف التوجه العام إلى غير الاتجاه الصحيح، باستهجان ذلك التصرف.
ليس من منطق العقل أن نحاول تغيير نواميس الكون، ولا مجريات الأمور؛ بما يختلف مع ضوابط الخير الذي أودعه الله في البشرية على اختلاف مشاربها، ومعتقداتها وتوجهاتها، ولا يمكن ذلك في الأصل؛ مثلما أنه من نقطتين مختلفتين يمر خط مستقيم ومستقيم واحد فقط.
يقول بعض فلاسفة الحياة : "إن الفلاح ليس بمالك ولا مستأجر، وإنما هو قن من أقنان الطبقة الظالمة في مجتمعه" وأعني بهذا أن السلطة لا تتجزأ، بل هي كل منقسم إلى أجزاء، تؤدي هذه الأجزاء دورا يصب في هدف واحدا، وهذا الدور تتفرع عنه مسؤوليات، تبقى متكاملة وتشترك في المغنم والمغرم في نهاية غاياتها.
وإن الانحسار في الزاوية وعدم الانفتاح يعني عدم الجدية في التغيير، وكذلك فإن عدم التمييز بين من يجب الانفتاح عليهم يؤدي إلي إعادة تسخير نفس الوسائل لنفس الغايات -ولو تغيرت الوجهة- ولكن مع ذلك سنكرر نفس القدر من القدرة على التفاعل، ونفس القدرة على الإنتاج، ونفس القدرة علي تجاوز المسافات، وفي النهاية ستكون النتيجة، لا منتجات جديدة، ولا مسافات قطعت على طريق البناء والنماء، ولا في اتجاه الإصلاح بما يجب من القصد والحزم والجزم، إذا سلمنا جدلا بسلامة المنطلقات.
صحيح أن التوبة والأوبة يقبلهما الله جل في علاه، لكن (للسابقة) دلالة، ولها كذلك أثر في الاختيار وفي التقدير، وهو نفس المنطق الذي جعل التشريع الجنائي الوضعي يعتبر العود من الظروف المشددة.
وأسأل هنا سؤالا لا أريد له إجابة غير مقنعة، ولا أريد بديهيات، إنما بصدق أود أن يخبرني صادق بالقصد من وراء تكرار التجربة، إذا لم تكن هذه التجربة مرضية النتائج، ومن ثم ماذا يرجى من إعادة تكليف من سبق أن كلف بمهام في التسيير، إذا لم نكن نرضى أداءه وانجازاته فيما كليف به في الماضي -إذا كان قد جرب- وما هي العصا السحرية التي يتغير بها النظام من دون تغيير الوسائل -المسير أولها- والآليات والخطط، وكذلك الطواقم البشرية المشرفة على مباشرة تطبيق برنامج الإصلاح والتغيير، ثم هل كان الإصلاح الا تكاملا بين عناصر من أهمها؛ البرامج، والطواقم التنفيذية، والخطط البديلة، ومواجهة الأخطار، واستغلال الفرص، وتشجيع النتائج المرضية، وتغير الخطط الفاشلة، واستبدال الطواقم العاجزة وغير ذات الكفاءة؟.
قد يكون رأس النظام بكفاءات عالية، وبصدق منقطع النظير في توجهاته الإصلاحية، ولكن ماهي سبيله إلى ذلك من دون طواقم الإشراف والتسيير.
حياة الناس وأقواتهم، وسلامتهم وصحتهم ومناهجهم التعليمية والفصل في خصوماتهم وتسيير تضارب مصالحهم، ثم إقامة التوازن بين مراكزهم حين تستوى مميزاتهم... ولا ينتهى العجب من القول: إن الرئيس سيقوم بإصلاحات عميقة وهادفة، ومع ذلك يُمَكِّنُ لأدوات الهدم في نظام سابقه، إلا إذا كان يرى أن لديه قدرة على تغير مكامن الأنفس البشرية، والقضاء على نوازع الشر بداخل هذه الأنفس، أو يرى أن سبب الهدم الذي تسبب فيه سابقه كان من عمل فردي، أو يرى أن من كان قبله يسير على الطريق الصحيح.
ففي الفرضية الأولى: لا يمكن أبدا تصور ذلك إلا من خلال تسليط عقوبات رادعة على ضحية أو اثنتين تكونان عبرة لمن تسول له نفسه نهج منهج السابق، وعدم الأخذ بالاعتبارات التي كانت تحكم العلاقات مع الموظف من طرف معينه، إذا تأكدت خبرته وقدرته على تأدية ما أنيط به، أو تقزيم دوره حتى الإعدام، بحيث يصبح آلة في يد معينه الجديد، وهذا يقتضى خبرات وقدرات خارقة، تمكن الرئيس من القيام بكل شيء لوحده ودون الحاجة إلى مساعد، سواء كان المساعد مسيرا لقطاع (وزير) أو مستشارا أو منفذا (مدير)، إلى غير ذلك من المساعدين، وهو الأمر المستحيل عقلا، وإن حدث جدلا فلن يسلم من الأخطاء الفادحة، التي تردي كل جهد في سبيل تحقيق الرخاء المنشود.
وفي الفرضية الثانية: نكون أمام نسخة من ما كان موجودا، مع تغيير شُخوصٍ ومراكزٍ قانونية، لا يُؤدي ذلك التغيير إلا إلى استنساخ نسخة قد لا تكون -بالضرورة- أحسن ولا أكثر رداءة من سابقتها، بل تكون محاولة لكسب أكبر وقت ممكن، لتوفيت فرص على الأجيال القادمة، من قبيل التأسيس على الأسس المتينة، وكالحيلولة دون محاسبة المذنبين، الذين أذنبوا في حقهم، أو تفويت فرص عليهم -على الأقل- في التقدم وتحقيق الرخاء.
وعلى الفرضيتان الأوليان؛ هل يكون الاصلاح ممكنا، بل هل يكون تصوره منسجما مع روتين الحياة ونواميس الكون؟
لا أعتقد أن أي عاقل يتصور مثل هذه التصورات، اللهم إلا إذا كان يعتقد باختلاف رأس السلطة عن صنفه من المخلوقات، ولا أنفي هنا إمكانية ذلك الاختلاف من حيث الأخلاق والتربية وحتى التكوين واحراز المعارف والخبرات، إلا أن ذلك يبقى مقيدا في حدود الممكن، بحيث لا يتصور أن يتجاوز الممكن إذا تحاوز المتصور.
وإن الأخلاق تفيد في التعامل مع مختلف الفئات البشرية، وتنفع كذلك وتعين في ممارسة السلطة، حيث صاحب الأخلاق لن يكون مثل غيره، وأخلاقه ستكون حتما رادِعًا ذاتيا، يحول دون ارتكاب الكثير من التجاوزات اللاأخلاقية، وتلك التي توصف بأنها محرمات، انطلاقا من أحكام الدين والقانون الاجتماعي (الاعراف)، وانطلاقا كذلك من القوانين الوضعية. وستكون الأخلاق جنة بين صاحبها والتردي في قيعان الرذيلة؛ كالسرقة وخيانة الأمانة والخداع والكذب وعدم الوفاء بالتعهدات، لكنها لن تكون درعا واقية من الإخلال بالالتزام، إلا إذا صاحبها حزم يدفع صاحبه إلى البحث عن من يشترك معه في الرأي، في التوجهات، وفي الدوافع الذاتية والرقيب الداخلي الأخلاقي ذو الأصول التربوية والدينية، أو على الأقل الخشية من محاكمة المحيط الضيق، أو المحاكمة أمام القانون. وهذه الأخيرة لها علاقة وثيقة بالصرامة وبالتروي وبعد النظر، ولها علاقة خاصة بالشجاعة، حيث المؤثرات والمغريات والعواطف وحظوظ النفس الأخرى؛ كالمغالبة وحب الشهرة والتعالي، والانفراد بالرأي، إلى غير ذلك مما يكون جنة بين صاحبه والممارسة السليمة، تلك الممارسة التي تقود في النهاية إلى تحقيق الرفاه للشعوب، وتخلد ذكر القادة، وترفع أفكارهم وأقدارهم وأوطانهم وشعوبهم.
هنا لا أريد أن أخوض في ما يخوض فيه الآخرون اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن الشيء بالشيء يذكر، وقد تذكرت الموضوع بفعل ما يتداوله بعض نشطاء هذا الفضاء، فأحببت أن أشير وأذكر؛ والذكرى تنفع المؤمنين.
تأملات عاطل