أن تكتب في هذه الأيام عن موضوع له من الأهمية ما للموضوع الذي نحن بصدده يستحسن أن تتوفر لك مجموعة من الشروط توجه قلمك وتلهم فكرك وتصوب كلماتك.
وهذا ما لا يتوفر لنا حاليا لأن عوامل الإحباط ومؤثرات المحيط أكثر من الحوافز المساعدة على انسياب الأفكار الخلاقة واستحضار الوقائع والحوادث المختلفة.
فالأوضاع في العالم العربي قد بلغت من السوء حدا غير مسبوق في العصر الحديث بل وأكثر مما تتمناه إسرائيل، ربما!.
فسوريا المدمرة واليمن المتناحرة، وليبيا التي تسوقها الأحداث لتكون للأسف دولة فاشلة، وفلسطين المحتلة، والعراق التي تقضي ما تبقى من محكومية عقوبتها... ومصر المهددة، والطبقة السياسية الموريتانية المتصارعة حول كلمة واحدة أحرفها قليلة وإشكالاتها كثيرة، يسمونها )حوار(.فتلك إذا مشاهد قاسية لا تترك للبال راحة ولا للنفس طمأنينة.
إن ما يتداوله الناس حاليا على الساحة الوطنية الموريتانية هو ما فرض علينا نفسه لنتناوله في هذه الأسطر دون غيره من المواضيع الملحة عربيا ودوليا... فالتعديلات الدستورية مثلا وما رافقها من أقوال وأفعال وانفعالات من أصحاب الرأي السياسي أو القانوني قد استدعت منا الإسهام في النقاش الجاري حولها:
أولا: دستور 20 يوليو 1991 كوثيقة أساسية هي أم التشريع الوطني لا تجوز مخالفتها ولو بنص معاهدة دولية.
إن الحكم على هذا الدستور يجب أن يقع ضمن الظروف التي رأى فيها النور.
فرياح الديمقراطية التي بدأت تهب على إفريقيا في ثمانينات القرن الماضي قد رافقها من الفوضى ما جعلها عديمة الجدوى بل تبين أن ضرها أقرب من نفعها.
فالمؤتمرات الوطنية ومخرجات اجتماعات مدينة (لا بول) الفرنسية قد تسببت في كثير من الأحداث التي زعزعت الأمن في البلدان الإفريقية التي جربت فيها.
من هنا تجدر الإشادة بالتجربة الديمقراطية الموريتانية التي كانت أصيلة وسلمية وحضارية، حيث تمت على مراحل تربوية آخذة بعين الاعتبار درجة الوعي السياسي لشعبنا الذي تجاوب بذكاء شديد مع المناخ السياسي الجديد وتأقلم بسرعة مع إكراهات التنافس والصبر على الموقف بتضحياته.
ثم جاء الدستور الحالي عام 1991م متوجا لهذه المرحلة ونحن لا ندعي له الكمال والتمام.
وإذا سلمنا جدلا بأن من وضعوا وحرروا دستور 1958 في فرنسا من أمثال مشيل دبريه وشبان دلماس وكوف دمرفيل – كما يقال – قد راعوا الظروف السياسية والصلاحيات الواجب إعطاؤها لرئيس يستمد سلطانه وسلطاته من الشعب مباشرة، فإننا لا نستبعد أن يكون من حرروا دستور 1991 في موريتانيا قد وجدوا أن الاستفادة والاستئناس بالدستور الفرنسي مسألة لا ضير فيها...ولها مسوغاتها الجيوسياسية.
إن دستور 1991 كان له الفضل في تكريس جملة من القيم والمبادئ ذات الأهمية القصوى على الصعيد الوطني، مثل النص على التعددية السياسية اللامتناهية وعلى مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية. وقد يقول قائل إن في نصه نواقص وفي بعض أبوابه وبنوده عدم وضوح لا يليق بوثيقة مرجعية تتولى تعيين وتحديد المؤسسات والهيئات الدستورية والصلاحيات الممنوحة لكل سلطة من تلك السلطات.
إننا لا ننكر بعضا من ذلك فالعمل البشري من خصوصياته عدم الكمال، إلا أن من الإنصاف له أن نضعه في سياق الزمن الذي رأى فيه النور كتعبير عن محيطه الوطني والإقليمي والدولي في تلك الفترة المضطربة في قارتنا إفريقيا.
ولعل من أبرز سمات النظام السياسي شبه الرئاسي المطبق في بعض الدول ومنها دولتنا، طغيان اختصاصات رأس السلطة التنفيذية على اختصاص السلطات الأخرى، فالمجال التشريعي للبرلمان محصور ومحدد في المادتين 57 و 58 من الدستور أساسا، بينما مجالات تدخل السلطة التنفيذية غير محصورة ولا محدودة (المادة 59 من نفس الدستور) فكل ما لم يذكره الدستور في مجال القانون فهو تلقائيا من اختصاص السلطات التنفيذية أي أنه داخل في ميدان السلطة التنظيمية التي تمارسها الحكومة بمراسيم عادية أو مذكرات أو مقررات... وهنا يظهر بوضوح مدى هيمنة السلطات الرئاسية في النظام السياسي شبه الرئاسي على السلطات الأخرى.
صحيح أن رئيس الجمهورية لا يمكنه أن ينفرد بإعلان الحرب دون الرجوع إلى البرلمان،
وإن البرلمان يشاركه في حق مبادرة مراجعة الدستور، وصحيح كذلك أن الدستور يمنع من اللجوء إلى الاستفتاء في حالة ما إذا تقرر لدى رئيس الجمهورية عرض التعديلات على المؤتمر البرلماني حيث لابد من الحصول على أغلبية 3/5 الأصوات لكي يكون التعديل قد تم برلمانيا دون الاستفتاء الشعبي حسب المادة )101( .
فهذه إذا نصوص متوازنة تمنح لكل من السلطات اختصاصها وإن كان ذلك لم يمنع الجدل والتأويل وعدم الفهم السليم لنية المحرر أو المشرع... .
وكخلاصة نقول إن دستور 20 يوليو 1991 دستور جيد جاءت فيه أحكام غاية في الأهمية تتعلق بالديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة )المادة 1 والمادة 2 ( من الدستور وأن من أحكامه ما هو صلب ومنها ما هو مرن والصلب من المواد لابد الرجوع فيه إلى الشعب من خلال الاستفتاء.
أما أحكام الدستور المرنة فيجوز تعديلها أو الغاؤها من خلال مسطرة لا تخلو من التعقيد وهي مسطرة المراجعة عن طريق البرلمان المكون من غرفة عليا هي مجلس الشيوخ وغرفة سفلى هي الجمعية الوطنية وقد نصت على هذه المسطرة المادة 99 والمادة 100 و101 من نفس الدستور.
وقد لا تسلم هذه المسطرة من بعض الشوائب القانونية التي منها ما هو مبدئي، والمبدأ لا تجوز مخالفته أصلا.
ونعني بذلك نظرية أو مبدأ توازي الأشكال LE PARALLELISNE DE FORME ومعنى ذلك أن من اتخذ القرار أو القانون هو نفسه الذي يحق له تغييره أو تعديله ، وفي حالة الدستور الموريتاني فواضعه أصلا هو الشعب الموريتاني عن طريق الاستفتاء ونفس القاعدة موجودة في القانون الإداري والتي تقول بأن من له حق التعيين هو الذي له وحده حق العزل من المنصب وبالتالي فلا يجوز لأي سلطة أن تحل محل سلطة أخرى في إقالة موظف لا تملك حق تعيينه أصلا.
ثانيا: تعديل الدستور عن طريق المادة 38 كقضية وطنية يحق لرئيس الجمهورية استشارة الشعب حولها إذ ما اكتسبت في تقديره أنها ذات أهمية وطنية.
يبدو أن الجدل حول الموضوع اخذ أبعادا لم يبق لنا معها ما نقوله إلا ما كان معادا مكرورا...
ولعل من الموضوعية، كما نرى أن نناقش سؤالا ملحا مفاده هل إضافة لون على لون العلم الوطني الذي تنص عليه المادة 8 من دستور 20 يوليو 1991 وإلغاء إحدى غرفتي البرلمان الموريتاني أعني بذلك إلغاء مجلس الشيوخ، لا يمكن اعتبارهما قضية وطنية يمكن للرئيس أن يأخذ رأي الشعب حولها؟
إنها كذلك فعلا فالنصوص على إطلاقها ما لم تقيد صراحة، لكن
لا بد من إضافة سؤال آخر على السؤال أعلاه، يعني هل مبادرة مراجعة الدستور التي منحتها المادة 99 من الدستور للرئيس وللبرلمان على حد سواء هي وحدها دون سواها الباب الأوحد الذي يسمح بالولوج إلى اقتراح تعديل وتغيير الدستور؟.
وهذان السؤالان واردان جدا، وهنا لا بد من الإشارة إلى عنصرين بارزين أحدهما ذاتي والآخر تحليلي تأويلي وموضوعي.
أ. العنصر الذاتي ومعناه هل كان من الواجب علينا أن نبحث ونفتش عن نية المشرع الذي وضع النص أصلا وماذا كان يجول بخاطر المحررين في ذلك الوقت وما هي الاحترازات التي كانوا يريدون وضعها كفرامل تكبح مرامي المادة 38 من الدستور وعموميتها وشموليتها والصيغة النكرة التي كتبت بها ومن ثم إلجامها وصدها عن التطرق إلى مواد الباب السابع، المتعلقة بالمراجعة. إن هذا العنصر لا يمكن استبعاده تلقائيا كما لا يمكن الأخذ به تلقائيا فذلك يستوجب إعمال الفكر والنظر في النص ككل وفي الطبيعة الملازمة للنظام السياسي شبه الرئاسي ... ونعني بذلك طغيان صلاحيات الرئيس فيه على صلاحيات السلطات الآخر.
ب. العنصر الموضوعي.
أن هذا العنصر يثير لدينا سؤالا أو تساؤلا فضوليا فنقول مثلا فلو استخدم رئيس الجمهورية حقه في الاعتماد على نص المادة 38 من الدستور من أجل استفتاء الشعب حول الغاء هيئة وسيط الجمهورية أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو المحكمة السامية ، وكلها هيئات دستورية منصوص عليها فهل كان سيثور كل هذا الجدل وهذا النقاش من أجل القول بضرورة المرور عن طريق الباب السابع والمادة 99 من الدستور؟ إننا لا نظن ذلك...
أما وقد تعلق الأمر بالعلم أو الراية وبالغرفة العليا من البرلمان والهيئات الأخرى.فإنه من الطبيعي أن تكون ردود الفعل السياسية والقانونية على ما هي عليه حاليا.
وسنتناول فيما يلي هذين الموضوعين:
ثالثا: العلم الوطني: رمز لسيادة كل دولة و لوجودها في الساحة الدولية كعضو فاعل في المجتمع الدولي عليه واجبات وله حقوق تساوي حقوق الدول الأخرى لا فرق بين الغني منها والفقير ولا القوي والضعيف، أما على الصعيد الوطني فإن العلم له دور تربوي يعلم الأجيال الحالية والصاعدة حب الوطن وشحذ روح الوطنية والاستعداد من أجل حماية البلد ومقدساته ورموزه والتضحية من أجلها بالغالي والنفيس كما أن العلم له رابطة روحانية عاطفية عند كل مواطن...
إلا أن حب العلم والتمسك به بلونين أو بألوان مختلفة، لا يكفي وحده بل تجب صيانته واحترام مقاساته وأصالة ألوانه الزاهية.
إنما نشاهده في بعض الأحيان من استهزاء بالعلم الوطني، حيث نراه ممزقا وفاقدا لألوانه القانونية وهو مرفوع على بعض المباني العمومية أو الخاصة، فهذا لا يشرف أحدا ولا يدل على قوة العلاقة بين العلم ومن هم حماته من الشعب، افتراضا...
صحيح أن المقاومة والشهداء المجاهدين والمدافعين عن الوطن والمواطن وسلامة التراب الوطني تستحق كل تقدير واستحضار تضحيات من قد فقدوا أرواحهم فداء للوطن. وهذا التقدير يمكن إما أن يرمز له من خلال صور كثيرة منها الاعتناء بأبناء الشهداء وأسرهم ومنها تخصيص ساحات عمومية تسمى ساحات الشهداء، ومنها رمز الجندي المجهول وأما أن يكون بإضافة اللون الأحمر إلى اللون الأخضر والأصفر الحاليين، فهذه مسألة عادية قد لا نختلف حولها كثيرا ، وتعدد الألوان من أحمر وأسود وأصفر كثير في اعلام الدول العربية والإفريقية على حد سواء.
رابعا: مجلس الشيوخ:
إن اقتراحإلغاء مجلس الشيوخ يعتبر تعديلا واضحا لنظام البرلمان bicameral أي البرلمان ذا الرأسين أو ذو الغرفتين.
ومجلس الشيوخ ركن راسخ من أركان النظام شبه الرئاسي، إلا أننا نجد أن من الدول الإفريقية من تأثرت بالنظام الفرنسي ولم تعرف غرفة مجلس الشيوخ في نظامها. ولعل الأخذ بنظام البرلمان من غرفتين كان سببه أصلا إفساح المجال أمام الأحزاب السياسية وامتصاص جزء من تطلعاتها في المشاركة في الحكم من خلال أعمال التشريع ومن خلال مبدأ تولي منصب رئيس الجمهورية في حالة شغور المنصب بكيفية مؤقتة أو دائمة.
وبالإمكان أن نستعرض خصائص وايجابيات وسلبيات المجلس حسب النقاط التالية:
أ- مجلس الشيوخ كأداة لاستمرارية دولة المؤسسات، ومعنى ذلك أن الجمعية الوطنية يمكن للحكومة حلها ويمكن أن تنتهي إنابتها وتحول ظروف طارئة دون أجراء الانتخابات العامة المؤدية إلى تجديدها.
كما أن شغور منصب رئيس الجمهورية يجد في رئيس مجلس الشيوخ الملجأ القانوني لاستمرارية مؤسسة الرئاسة ضمن الشروط التي ينص عليها القانون...
وانطلاقا مما تقدم فيمكن أن نعتبر مجلس الشيوخ هيئة "سلطانية" لا تموت بالزمن ولا تحل مثل الجمعية الوطنية.
ب- مجلس الشيوخ وآليات انتخاب أعضائه بعكس ما ذكرناه في الفقرة السابقة (أ) من صورة إيجابية، فإن الصورة التي نعطيها هنا في هذه الفقرة (ب) ليست كذلك.
فعندما نتذكر الحملات الانتخابية التي تجرى لانتخاب الشيوخ لا بد أن نتذكر كذلك بشيء من عدم السعادة تلك الضغوط المعنوية التي يتعرض لها المستشارون في البلديات وهم الهيئة الناخبة... والكلام هنا قد يطول .ثم أن التجديد الدوري للمجموعات المكونة للمجلس قد يكون، حسب ظرف من الظروف أمرا مستحيلا وبالتالي نصبح أمام وضع شاذ لا يليق بهيئة تشريعية يسهم إنتاجها للقوانين في بناء دولة ووطن بحاجة إلى استثمار كل صغيرة وكبيرة من أجل شعب صبور محتاج... ومن هنا لابد من الإشارة إلى ما تشكله مسطرة البرلمان والمكون من غرفتين من أعباء تشريعية ومسطرية قد تحول دون الاستفادة من فرص بعض التمويلات الخارجية التي يقدمها الممولون وتقتضي السرعة في العمل إلى غير ذلك.
وختاما نرجو المعذرة أن كنا قد أطلنا فإلى الخير قصدنا والعلم كل العلم عند الله.
بقلم/ إسماعيل إياهي