لكل أمة، في تاريخها لحظات مفصلية، تستأنف فيها مسيرتها الحافلة على قواعد جديدة تناسب المرحلة، وتجسر الماضي بالمستقبل في تناغم يجبر الانكسارات ويحقق وحدة تصور قادرة على تنفيذ مشروع اجتماعي تذوب فيه الفوارق وتنجز فيه العدالة. وأمتنا اليوم نحسبها في إحدى هذه اللحظات من تاريخها المجيد، تنفض الغبار عن ماضيها التليد لتصنع مستقبلا يصلها به دون أن يشدها إليها. في هذه اللحظة التاريخية نعيد التفكير في الأسس التي ينبغي أن تقام عليها تنمية شاملة تحذف منها أشكال الفقر الهندسية، ومعالمه العمرانية، وهجراته الموسمية إلى المدن الكبرى يطوقها بأحزمة الفقر الشبيهة حد التطابق بالأحزمة الناسفة.
إن لرؤية المجالس الجهوية أبعادا متكاملة؛ فهي تهدف إلى إعادة توزيع الثروة الوطنية بطريقة أكثر عدلا، بحيث تصل إلى المواطن في مدفن أجداده وموئل أحفاده، وتضمن له المشاركة الفاعلة في العملية السياسية من خلال الديمقراطية الحقة التي تتيح للناخبين تقييم أداء منتخبيهم لمكافأتهم على حسن الأداء، ومعاقبتهم على سوئه. كما تتيح المجالس الجهوية إقامة أقطاب تنموية، ومرونة في إجراءات الصرف، وشفافية في الجباية، ورقابة شعبية فاعلة على الإدارة المحلية. ينضاف إلى هذه الأبعاد بعد أمني لا يقل أهمية من خلال تثبيت المواطنين في مناطقهم لإبعاد عصابات التهريب والجريمة المنظمة، والمجموعات الإرهابية. كل هذه الفوائد التي تعود على المواطن مباشرة يتم تغييبها لصالح مماحكات حول أرقام، وكلمات، وألوان تتناقض الخطابات حولها بين التجريم والقداسة، والطيرة والتحريم، كل ذلك في تجاهل تام لما تتأسس عليه الأمم من مقومات مادية وقيم معنوية…
فقد استقر، في علم الاجتماع السياسي أنه لا بد لكل أمة من “أساطير مؤسسة” تقوم عليها لحمة أفرادها وجماعاتها. بل إن لكل حقبة من تاريخ البشرية أساطيرها المؤسسة؛ وهكذا، فإن الأساطير المؤسسة للقرن العشرين تمثلت في التقدم، والإنسانية، والعلم… وطبقا لهذا التحليل، فإن الأسطورة المؤسسة للجمهورية الموريتانية الأولى، هي أسطورة الاستقلال، القائمة على شرعية الاستعمار. فقد كان الهاجس الأول لبناة الدولة الموريتانية، رحم الله الموتى منهم، وبارك في أعمار الأحياء، هو تحقيق استقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية. ولم تكن هناك إمكانية لإنجاز ذلك الاستقلال إلا بالاعتماد على شرعية الاستعمار التي لا تتجاوز في التاريخ سنة 1905، وتتقلص في الجغرافيا ضمن الخرائط العشوائية لمستعمرات غرب إفريقيا الفرنسية. تلك الخرائط التي تتجاهل الوقائع الاجتماعية، وتجهل التاريخ الثقافي والحضاري للمنطقة، لكن الرعيل الأول استمسك بها ليضمن عدم المساس “بالحدود الموروثة عن الاستعمار”.
لقد تم السكوت عن التاريخ، ما قبل 1905، فأهملت إمبراطورية غانا، وسرقت دولة المرابطين التي أبقت الأندلس في أيدي المسلمين مدة خمسة قرون إضافية. وتقاسم الجيران تراثنا فأغاروا على أعلامنا ينسبونهم إليهم، مثل الفوتي، والشيخ سيد المختار الكنتي، والشيخ ماء العينين، وبقي الحضرمي مدفونا بيننا لا ذكره ينشر ولا قبره يزار. أما الفاتح الكبير أبو بكر بن عامر فقد بزه يوسف بن تاشفين فأخمد ذكره، وظل قبره متجاهلا إلى أن زاره فخامة رئيس الجمهورية يحيي بتلك الزيارة بعض أمجادنا المنسية… أصبحنا مثل التي قال فيها الشاعر:
ماضيك لا أنوي إثارته***حسبي بأنك هاهنا الآنا.. دولة مستقلة.. خرجت من التاريخ بلا هوية… ماضيها واو عمرو.. وحاضرها همزة وصل… ومستقبلها متروك للإرادة الاستعمارية…
لقد استنفدت دولة الاستقلال أغراضها؛ فقد حقق آباؤها المؤسسون هدفهم الرئيس: الاعتراف الدولي بدولة مستقلة لها حدود موروثة عن الاستعمار لا يمكن المساس بها… سئل المندوب الانجليزي في الهند “لماذا اقتطعت إقليم كشمير من باكستان؟” فقال:”لو رسمت خريطة باكستان على علبة ثقاب لقبل بها محمد علي جناح”… وكم خلفت الخرائط الاستعمارية من “كشمير”لا يزال مشتعلا!!! لقد عرفت أغلب بلدان إفريقيا الفرنسية انقلابات أطاحت بالجمهورية الأولى لإدراك النخب أن شرعية الاستعمار لا يمكن أن تؤسس دولة وطنية يحقق أبناؤها الانتماء الوجداني إليها، فبحثوا عن شرعية جديدة رآها البعض في الثورة الاشتراكية، ومال آخرون إلى التراث الإفريقي يستنطقونه، لكن الإجماع كان منعقدا على إعادة النظر في شرعية دولة الاستقلال، والبحث عن شرعية جديدة.
لقد آن الأوان إذن لتؤسس الجمهورية الثالثة على شرعية المقاومة ليتكمل الخداج الذي قامت عليه دولة الاستقلال. شرعية المقاومة تعيد إلينا هويتنا الوطنية وتربطنا بتاريخنا الناصع ما قبل 1905. وذلك ما دعا إليه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز وهو يقف على أطلال مدينة الرشيد التي دمرها الغزاة. فقد دعا إلى إعادة كتابة تاريخنا الذي طمسه المستعمر وشوهه ورثته. وأكد على أن كل الموريتانيين ساهموا في المقاومة الوطنية كل من موقعه. حتى الذين ركبوا مع النصارى قاوموا من مواقعهم فكانوا يسارعون إلى الانهزام، ويبددون ذخائرهم، واشتغل بعضهم عيونا للمقاومين، ولم يكن المستعمر يثق بهم وإنما اعتمد على جيوشه من الأجانب…
لا يجد الغامزون من طرف المقاومة ما يلمزونها به غير أنها لم تجلب الاستقلال. ويتناسى أولئك أن الثورة الجزائرية الأولى التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري لم تجلب الاستقلال للجزائر واستسلم قائدها بعد خمس عشرة سنة من الجهاد. وأن ثورة عرابي في مصر انتهت باحتلال الانجليز للبلاد ونفي عُرابي وصحبه من الثوار إلى جزيرة سيرنديب. أما الشيخ عمر المختار فقد كان معلم صبيان يحفظهم القرآن حتى إذا حلت نازلة الاستعمار لم يتردد، أو يرتب، وإنما ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، فأعد لهم ما استطاع من قوة، وظل يجالدهم إلى أن وقع أسيرا فشنقوا الشيخ الكبار لتنتهي المقاومة الليبية. ولن تحصل ليبيا على استقلالها إلا بعد ذلك بعشرات السنين…
لكن كل هؤلاء الذين هبوا للدفاع عن الأرض والعرض يحظون اليوم بإجماع وطني حول تقدير تضحياتهم وتخليد بطولاتهم… فما بال مقاومينا الأبطال لا بواكي لهم!!!
إن من يرفض تزيين العلم بخطين أحمرين عرفانا لكل من ضحى من أجل موريتانيا من أبطال المقاومة، وأفراد جيشنا وقوانا الأمنية ومناضلينا الشرفاء يرفض أن تؤسس هذه الدولة على قواعد الشرف وشرعية الانتماء إلى الوطن ودينه وقيمه.
إن العلم المقترح استذكار لشهداء تجكجة الذين أحرقت أجسادهم الطاهرة بينما أقيمت لكبولاني جنازة رسمية ونصب تذكاري على أرضنا الطاهرة. إنه وفاء لشهداء معركة النيملان الوطنية الخالدة التي ظلت قبور شهدائها بلا شواهد حتى وقف رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز عليها يقرأ الفاتحة على الأرواح الزكية، بينما يلوح في الأفق نصب تذكاري لضباط الافرنجة الذين لقوا حتفهم في تلكم الملحمة البطولية.
إن العلم المقترح وفاء لكل المناضلين من أجل موريتانيا حرة مستقلة ينعم أبناؤها بالمساواة ويتقاسمون خيراتها بالعدل. إنه وفاء لسميدع، وشهداء ميفرما، وكل الذين قضوا في سجون الأحكام المستبدة. وفاء لأبناء القوات المسلحة وقوات الأمن الذين سقطوا في حرب الأشقاء. والذين قضوا في حوادث الطائرات والسيارات التي لم تكشف ملابساتها حتى اليوم.
وحين تصوتون أيها الموريتانيون الشرفاء على الإصلاحات الدستورية المقترحة فإنما تصوتون لمستقبل زاهر، يربطكم بماض مجيد لتولد من رحم النضال الوطني جمهورية ثالثة تشاد على شرعية المقاومة الوطنية.
شعارنا.. سجل.. صوت.. نعم.
بقلم\ محمد اسحاق الكنتي