سيجد المتابع صعوبة في فك لغز وتفسير المسلكيات التي تقوم بها الشقيقة السينغال اتجاه الجمهورية الإسلامية الموريتانية، كدولة شقيقة وصديقة تضم أكبر قدر من الجالية السينغالية بالخارج، إلا أنه يمكن تبرير هذه السلوك والاستفزازات بالنظرة التوسعية والمراهنة على إمكانية ضعف الدولة الموريتانية وانهيارها في ظل ما تقوم به القوى المعارضة للنظام منذ وصول الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز لسدة الحكم بعد الانتخابات الرئاسية في 2009 وما تلاها من نجاحات في الانتخابات اللاحقة في سنة 2014 وما يلوح في الأفق من رهانات للمعارضة في الداخل والخارج على قضية المأمورية الثالثة، حيث ترى كل هذه القوى المعارضة في الداخل والخارج أنها الفرصة الوحيدة لاسقاط النظام وبداية عهد جديد، وفي سبيل ذلك إلتقت طموحات وطنية بأخرى أجنبية تمثلت في السينغال ودول شقيقة أخرى… في لعبة الشد والجذب، مما يفسر أن الدول الشقيقة ترى في موريتانيا عمقا استراتيجيا لها، كما ظلت موريتانيا تنظر لبعض الدول المجاورة بنفس النظرة على أنها عمقا استراتيجيا وامتدادا طبيعيا للأمة الموريتانية. وتعرف المصادر المختلفة مصطلح العمق الاستراتيجي على أنه مصطلح عسكري يستخدم لوصف المناطق الفاصلة بين خطوط القتال على الجبهة وبين المدن الكبرى ومناطق الثقل السكاني والصناعي للدولة، يكمن المعيار الأساسي للمناطق التي تشكل عمقا استراتيجيا في مدى مقدرة الجيش على الانسحاب تكتيكيا من تلك المناطق في حال تعرضه لهجوم معادي دون أن يخسر الحرب أو القدرة على مواصلة الحرب. كما تشير معظم مكاتب الدراسات الاستراتيجية و خبراء التحليل الجيوسياسي أن دول الجوار لأي دولة بمثابة العمق الاستراتيجي للدولة وبالتالي يتحدد الموقف السياسي بحسب حسابات السياسة والجغرافيا والواقع وحرارة العلاقة من جمودها بحيث يضمن نوعا من التحييد لأي نوع من التشويش أو الإساءة للعلاقات البينية بين دول الجوار والدولة المجاورة، وأي تحرش أو إساءة للدولة المجاورة من قبل دول الجوار سيتم التعامل معه على أنه نوعا من التحرش والسعي للاحتكاك وبالتالي تدهور العلاقات والوصول إلى نوع من التوتر لا تضمن عواقبه، ويمكن أن تتطور تلك المسلكيات فتصبح نظرة الدول لبعضها البعض نظرة غير صحية بل قد تدفع البعض من المتطرفين في “الوطنية” إلى فهم الخطوة كنوع من التفكير التوسعي نحونا كدولة جارة للسينغال، فعلى مر تاريخ العلاقات بين البلدين ظلت السينغال وموريتانيا دولتان شقيقتان ولا تزالان، ونرجو لهما الاستمرار في نفس العلاقات الطيبة وتطورها دوما لما يخدم الدولتين والشعبين الشقيقين، غير أنه لا يمكن أن ننسى الجرح الغائر وسط الفترة الممتدة ما بين ولادة الدولتين حتى اليوم، المتمثل في ما أصبح يعرف بأحداث 1989م حيث شهدت مخابز السينغال وأفرانها شي البشر لا لشيء غير أن ذنبه أنه مواطن موريتاني ببشرة بيضاء، تلك الأحداث الأليمة التي راح ضحيتها مواطنون أبرياء من البلدين، وكادت أن تتطور إلى حرب طاحنة تحدث فيها بعض الموريتانيين عن رغبته في إكتساء الشاء الموريتاني في وسط شوارع داكار، وكذلك إعادة عاصمة البلاد إلى مدينة “سينلوي” التي كانت عاصمة لإقليم موريتانيا قبل الاستقلال، غير أن تلك الأحداث تم تجاوزها عن طريق الحزم والموقف الواضح من الرئيس الموريتاني حينها “معاوية ولد سيد أحمد الطايع” الذي أعطى أوامره بالاستعداد لكل الاحتمالات، غير أن الحكمة التي اتسم بها الرئيس السينغالي السابق “عبدو جوف” و الاستشارة التي قدمها الرئيس الفرنسي (فرانسوا ميتراه) للسينغال، وجهود الرئيس الفرنسي اللاحق (جاك شيراك) كل تلك المساعي أعادت المياه إلى مجاريها، غير أن موريتانيا سجلت في تاريخها تلك النوايا التي عبرت عنها السينغال في ذلك الوقت، على خلفية مياه النهر، والتي تم تجاوزها والتفاهم لتعود العلاقات الموريتانية السينغالية كما كانت وتظل في تطور مطرد إلى أن وصلت السينغال لمرحلة ما بعد انتخابات 2012 التي بدأت معها السينغال في مرحلة جديدة حيث رحبت المعارضة الموريتانية بالرئيس الجديد وأظهرت الحكومة نوعا من التريث والصمت حتى تعلن النتائج بشكل رسمي ويتم تنصيب الرئيس الجديد، وهي الخطوة التي يبدو أن الرئيس السينغالي لم يرتاح لها وظلت عقدته التي لازمته حتى الآن فأظهر برودة اتجاه العلاقات الموريتانية السينغالية، وكشفه أول اختبار حين وقع إنقلاب بجمهورية غامبيا والذي رعته السينغال وحاولت تقزيم أي دور على الأرض لموريتانيا، بل ذهب بعض المحللين وقتها إلى إتهام القوات السينغالية بالتحرش بغامبيا والاستهتار بموريتانيا وتعريض الرئيس محمد ولد عبد العزيز للخطر خلال تواجده بالقصر الغامبي لإدارة الأزمة، كل هذه الرسائل جاءت لموريتانيا في أوقات متزامنة مع أشياء أخرى مغلفة، حيث عملت السينغال على إيواء كل الأصوات المغاضبة للرئيس الموريتاني وتساهلت مع كل النشاطات التي قامت بها جهات معارضة للنظام الموريتاني، لتأتي قصة الغاز الذي تم اكتشافه على الحدود الموريتانية السينغالية ويعمق المشكلة أكثر من ما كانت عليه، فيقوم النظام السينغالي بدعم أنشطة إيرا وفرقة أولاد لبلاد وأنشطة رجل الأعمال المعارض محمد بوعماتو وغيرهم، في تحرش واضح بالجارة الموريتانية، وقد أشار راتزل في كتابه إلى أن الدولة كائن حي تدفعه الضرورة للنمو عن طريق الحصول على الموارد التي تعوزه ولو دفعه هذا إلى استخدام القوة. ويضيف مؤسس الجيوبوليتيك “راتزل” أن الدولة لها الحق في التوسع عن طريق السكان والحضارة أو القوة. وقد تبنى راتزل المقولة التي تفيد بأن العَلم (الراية) يتبع التوسع التجاري.. فعملية نمو الدولة لاحقة لمختلف مظاهر نمو السكان والحضارة.. وتسعى الدولة في نموها إلى امتصاص الأقاليم ذات القيمة. وقد كان راتزل في كتابه متأثرا بالجو العلمي المشحون بكل ثقل نظرية التطور في العلوم الطبيعية ولهذا نراه ينظر للجغرافيا السياسية باعتبارها فرعا من فروع العلوم الطبيعية. ولعل الرئيس السينغالي متؤثرا بنظرية ماكيندر للعالم التي ترى أن العالم ماهو إلا جزيرة كبيرة متصلة (آسيا – أوروبا – أفريقيا) تحيط بها جزر على الأطراف (الأمريكتين – أستراليا)..ولعل الرئيس السينغالي يعتبر السينغال “قلب العالم” وماكندر يقول: (من يسيطر علي قلب العالم يسيطر علي الجزيرة العالمية؛ ومن يسيطر علي الجزيرة العالمية يسيطر علي العالم). لقد رعت السينغال الكثير من الأعمال العدائية ضد الدولة الموريتانية، وقابل النظام الموريتاني الحالي ذلك التصرف بكل حكمة، وصبر وتصامم عن النداءات له من بل مواطنيه بضرورة التعبير عن عدم الرضى والقبول بالتصرفات السينغالية غير أن الصبر والحلم ظل أسلوب القيادة الوطنية اتجاه الجارة السينغالية، رغم خطورة ما تم حيث أنه من الطعن والعمل العدائي الواضح، أن يتم التخطيط لعودة البعثة الأمريكية نفس الليلة إلى السنغال، واستقبالها وتأمين الحماية والدعم لمبعوثين من المنظمات “الحقوقية” المتطرّفة المنتمية لموريتانيا و التى استدعت البعثات التنصيرية لزيارة البلد، لتحتفل بهم السينغال وترعى مخططهم واجتماعاتهم لعرض ما حضّروه من أفلام مفبركة وقصص خيالية! بعد قرار الدولة الموريتانية إبعاد هذه البعثات الأجنبية والذي كان صائبا تماما ، فهؤلاء جاءوا بهدف الإضرار بسمعة دولتنا وطريقة قدومهم مستفزة فلم يكلفوا أنفسهم عناء إشعار السلطات الدبلوماسية الموريتانية ولم يحترموا العرف المتبع في تحدي سافر لاستقلال البلد، كان يجب أن تتم إهانتهم قبل إبعادهم“. ومن العبث أن يتم التراجع عن السماح لمؤتمر صحفي لحركة إيرا بالعاصمة السينغالية داكار وتخرج علينا السينغال بدروس في حقوق الإنسان توجهها لموريتانيا عبر وكالة الأنباء السينغالية الرسمية، فمتى كانت موريتانيا تستقبل دروسا من أي نوع من السينغال وخاصة في مجال حقوق الإنسان والأخلاق، حيث تشير شهادات بعض من يعرفون القيم والعادات السيغالية أنه تنتشر في السينغال القبور التي تميز بين بني البشر الذي لا يتميز بعد موته سواء الغني والفقير صاحب المكانة الاجتماعية ومن لا مكانة له، الحر والعبد، غير أن القبور بالعادات والقيم هناك تفرق بين الناس فأين القيم والأخلاق وحقوق الموتى والأحياء.
بقلم\ محمد سيد أحمد