وصلني الكثير من التعليقات على مقالي السابق”هل أعجبتكم النقود الجديدة!؟”، بعض هذه التعليقات كان منتقدا للمقال بحجة أنه قد خلا تماما من أي أدلة وحجج مقنعة، وأنه اعتمد على تخمينات وانطباعات شخصية وعلى قصة لا صلة لها بالموضوع.
في هذا المقال سأرد على أصحاب تلك التعليقات بتقديم حجج قوية وأرقام لا يمكن الطعن في مصداقيتها، ولكن قبل ذلك سأزيدهم من الشعر بيتا ومن القصص قصة.
يحكى فيما يحكى أن طفلا صغيرا دخل في محل للحلاقة، فما كان من الحلاق إلا أن همس في أذن الزبون قائلا : إن هذا الطفل الذي دخل علينا هو أغبى طفل في العالم، وسأثبت لك ذلك بالدليل القاطع.
وضع الحلاق جنيها في يد و25 قرشا في اليد الأخرى، ثم عرض على الطفل “الغبي” أن يختار ما في إحدى اليدين، فما كان من الطفل إلا أن اختار 25 قرشا، ثم خرج إلى حال سبيله.
هنا قال الحلاق لزبونه : هل رأيت كم هو غبي هذا الطفل، إنني في كل يوم أكرر معه نفس العملية، وهو يصر دائما على أن يختار الخمسة والعشرين قرشا.
انتهت عملية الحلاقة، وخرج الزبون من المحل فصادف الطفل “الغبي” في الشارع، فما كان منه إلا أن سأله : لماذا تأخذ في كل مرة الخمسة والعشرين قرشا ولا تأخذ الجنيه؟
فما كان من الطفل “الغبي” إلا أن رد قائلا: لأن اللعبة ستنتهي في اليوم الذي سآخذ فيه الجنيه.
هذه الطريقة الذكية التي استخدمها هذا الطفل الذكي للتحايل على الحلاق الغبي، هي نفسها الطريقة التي تستخدمها حكومتنا المحتالة في عمليات سرقتها لشعبنا الطيب، ولا أقول شعبنا الغبي.
إن حكومتنا المحتالة تمارس نفس هذا الأسلوب الذكي في سرقة شعبها، فهي وحتى وإن كانت تمارس في بعض الأحيان السرقة بالجملة، إلا أنها في أحايين أخرى تمارس السرقة بالتقسيط حتى لا ينتبه هذا الشعب الطيب لسرقتها، وتبقى السرقة من خلال زيادة أسعار المحروقات هي خير دليل على هذا الكلام، وإليكم قصة هذه السرقات من ألفها إلى يائها، وبلغة الأرقام.
قبل أقل من شهر من انقلاب السادس من أغسطس، وتحديدا في يوم 11 يوليو 2008 وصل سعر برميل النفط بعد سلسلة من الزيادات إلى 147 دولارا للبرميل، وهذا هو أعلى سعر يصل إليه برميل النفط منذ أن أصبح النفط سلعة تباع وتشترى.
في تلك الفترة كان النظام السابق يبيع لتر المازوت للمستهلك في العاصمة نواكشوط ب303.7 أوقية.
بعد انقلاب السادس من أغسطس بدأ سعر برميل النفط ينخفض، فوصل بعد شهرين من الانقلاب إلى 50 دولارا، ووصل في يوم 5 ديسمبر 2008 إلى 40 دولارا للبرميل.
في تلك الفترة كان النظام يعمل جاهدا لتشريع الانقلاب، ولذلك فقد حاول أن يستفيد من هذا الانخفاض الكبير في سعر النفط (لقد وصل سعر برميل النفط بعد أربعة أشهر تقريبا من الانقلاب، أي في يوم 5 ديسمبر إلى ما يقترب من ربع سعره قبل الانقلاب بشهر تقريبا، أي في يوم 11 يوليو 2008). حاول النظام أن يستفيد من هذا الانخفاض الكبير في أسعار النفط، فأعلن عن تخفيضات في أسعار المحروقات في السوق المحلي، وكان التخفيض الأول في يوم 20 أكتوبر 2008، وفي حدود 37 أوقية بالنسبة للتر المازوت الذي انتقل من 303.7 للتر إلى 266.4 للتر، وكان التخفيض الثاني في يوم 19 فبراير 2009 وفي حدود 20 أوقية للتر المازوت الذي وصل بعد التخفيض الثاني إلى 245.2 للتر، وكان التخفيض الثالث في يوم 12 إبريل 2009، وبمقدار عشرين أوقية، فوصل سعر لتر المحروقات 225.2 أوقية. هنا انتهت قصة تخفيض أسعار المحروقات السائلة في العهد الحالي، باستثناء تخفيض واحد في العام 2010 مقابل تسع زيادات تم تسجيلها في ذلك العام. كانت كل التخفيضات من قبل رئاسيات 2009 باستثناء تخفيض واحد، أي أنها جاءت لتشريع انقلاب السادس من أغسطس، ولما تم تشريع الانقلاب باتفاق داكار وبانتخابات 2009، توقف تخفيض أسعار المحروقات السائلة، وبدأت من بعد ذلك سلسلة من الزيادات في أسعار المحروقات، والتي لم تكن مبررة في ظل الانخفاض في أسعار النفط. وقد بلغت عمليات الزيادة في أسعار المحروقات في السنوات الأربع الأولى من المأمورية الأولى حدود 40 زيادة، أي بمتوسط قدره 10 زيادات في كل سنة. ولأنه لا يمكننا أن نتحدث عن كل تلك الزيادات، فإننا سنكتفي بست زيادات تم تسجيلها في الأشهر التسعة الأولى من العام 2011، فهذه الزيادات لها دلالتها الخاصة وذلك لأنها بالإضافة إلى ما فيها من احتيال وسرقة فقد كان فيها أيضا الكثير من الاستخفاف بهذا الشعب الطيب، فهذه الزيادات قد جاءت من بعد مجلس الوزراء المنعقد في يوم الأربعاء 26 يناير 2011، والذي أوضح فيه وزير البترول والطاقة حينها السيد “وان إبراهيما لمين” وفق ما نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء في ذلك اليوم بأن الحكومة صادقت على مشروع مرسوم يعدل بعض ترتيبات المراسيم المعدلة لمراسيم محددة للعناصر المكونة لهيكلة سعر المحروقات في بلادنا وأضاف الوزير تعقيبا على نتائج اجتماع مجلس الوزراء أن من شأن مشروع هذا القانون المساعدة في تخفيض أسعار المحروقات و”التي سيتم تخفيضها في القريب العاجل”. هذه الجملة الأخيرة كتبتها الوكالة بتلك الصيغة لتؤكد بأنها قد نقلتها حرفيا من كلام السيد الوزير.
طبعا لم تنخفض أسعار المحروقات في القريب العاجل، ولا في البعيد الآجل، بل إن الذي حدث بعد ذلك هو أنه بعد شهرين من كلام الوزير، وتحديدا في آخر يوم من شهر مارس من العام 2011 تم الإعلان عن زيادة بلغت 7.5 أوقية للتر المازوت في العاصمة نواكشوط ليصل سعره إلى 292.9 أوقية، وفي يوم 2 مايو تم الإعلان عن زيادة أخرى في حدود 4 أوقية ليصبح سعر لتر المازوت في العاصمة نواكشوط 296.8 أوقية، وفي 19 من نفس الشهر تم الإعلان عن زيادة جديدة بلغت 6 أوقية ليصل سعر اللتر إلى 302.7 أوقية، وفي يوم 26 يونيو أعلن عن زيادة أخرى في حدود 5 أوقية فوصل بموجبها سعر اللتر إلى 307.6 أوقية، وفي يوم 28 يوليو 2011 أعلن عن زيادة جديدة في حدود 5 أوقية وصل بموجبها سعر اللتر 312.2، وفي يوم 19 سبتمبر أعلن عن زيادة أخرى بمقدار 4.5 أوقية فوصل سعر اللتر إلى 316.7 أوقية، وهكذا ظلت الأمور تسير بهذه الوتيرة إلى أن وصلنا إلى زيادة يوم الجمعة 6 سبتمبر 2013، والتي كانت بمقدار 1.8 أوقية فوصل سعر لتر المازوت في العاصمة نواكشوط إلى سعره الحالي أي 384.6 أوقية.
انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية إلى أن وصلت في مطلع العام 2016 إلى أقل من 30 دولارا للبرميل، ومع ذلك فلم تشفق الحكومة الموريتانية بشعبها، وظلت ترفض أن تخفض أسعار المحروقات بعد سلسة من الزيادات التي رفعت سعر المازوت من 229 كان يباع بها لتر المازوت في العاصمة نواكشوط في شهر نوفمبر من العام 2009 إلى384.6 ابتداء من يوم 6 سبتمبر 2013 وحتى يومنا هذا. أي أن مجموع زيادات السعر في الفترة من 26 أكتوبر 2009 إلى 6 سبتمبر 2013 قد وصلت إلى 155.6 أوقية، وهو ما يمثل زيادة في السعر بنسبة 67.68%. فلو أن النظام قرر أن يزيد سعر لتر المازوت ب155 أوقية مرة واحدة، لانتهت اللعبة، ولانتهى معها النظام، وذلك على الرغم من طيبة هذا الشعب ومن قدرته على التحمل. فزيادة 155 أوقية للتر، أي زيادة بنسبة 67.68% دفعة واحدة لا يمكن تحملها مطلقا ومهما كانت طيبة الشعب الضحية، ولذلك فقد ظل هذا النظام يعلن عن زيادات قليلة لا تلفت الانتباه إلى أن وصلت في مجموعها إلى 155 أوقية للتر الواحد.
وتقدر أرباح الحكومة من عمليات الاحتيال هذه إلى 236 أوقية عن كل لتر من المحروقات السائلة يباع على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية. أما مجموع أرباح الحكومة من سرقاتها هذه فقدر ب 233 مليار أوقية في العام 2016.
المستفز في الأمر أن هذه السرقة الكبيرة التي تمارس ضد هذا الشعب الطيب قد تم تبريرها بحجج غريبة، فوزير الاقتصاد والمالية بررها بالقول بأن الأسعار التي تباع بها المحروقات السائلة في موريتانيا هي نفسها الأسعار التي تباع بها المحروقات في فرنسا، والناطق الرسمي للحكومة بررها بالقول بأن الفقراء غير معنيين بتخفيض المحروقات، وذلك لأنهم لا يملكون سيارات. أما الرئيس فقد بررها بجملة من التبريرات كان من بينها أنه من حق الدولة أن تستعيد ما أنفقته في السنوات الماضية على دعم المحروقات. وكأن الدولة قد أصبحت تاجرا يحق لها أن تستعيد ما أنفقت على الشعب، وليتها كانت مجرد تاجر غير محتال يكتفي فقط باستعادة ديونه ولا يزيد على ذلك، فالدولة قد استعادت في السنوات الأخيرة أضعاف ما أنفقت من دعم على المحروقات في العهود السابقة، ومع ذلك فإن النظام لم يتوقف عن التربح من خلال بيع المحروقات السائلة بأسعار مجحفة بالمواطن.
إن هذه الزيادات المتتالية في أسعار المحروقات قد صاحبتها انخفاضات متتالية في سعر صرف الأوقية التي انخفضت قيمتها من 241.3 للدولار و354.8 للأيرو في العام 2008 إلى أن وصلت في يومنا هذا إلى 355.6 بالنسبة للدولار و 428.6 بالنسبة للأيرو، أي أننا خسرنا 114 أوقية بالنسبة للدولار و128 أوقية بالنسبة للإيرو. وبطبيعة الحال فإن هذا الانخفاض الكبير في قيمة الأوقية لم يأت مرة واحدة، وإنما جاء على شكل خسائر قليلة، ولكنها كانت متتالية، إلى أن وصلت في محصلتها النهائية إلى هذا الخسارة الثقيلة.
أبعد هذا كله ألا يحق لنا أن نشكك في الأهداف المعلنة رسميا من وراء تبديل قاعدة الأوقية، ألا يمكن أن يكون تبديل هذه القاعدة قد جاء من أجل مواصلة تخفيض قيمة الأوقية ومواصلة زيادة الأسعار، ولكن بأسلوب جديد أكثر احتيالا ويصعب اكتشافه؟
ويبقى سؤال أخير: إلى متى سيظل هذا الشعب الطيب يلعب دور الحلاق الغبي؟
حفظ الله موريتانيا..
بقلم/ / محمد الأمين ولد الفاضل