كثيرا ما يطل عليك شخص كانت لك به صلة ومعرفة قديمة، بحيث أنك تعرف عنه كل شيء،ماضي تعيس، أسرة فقيرة،تنحدر من مجتمع يعتمد في رزقه على أعمال حرفية لا تكاد توفر له ما يسد الرمق، إما يبيع في المحلات الصغيرة أجير"وكاف"، أو حمال في أحد الشركات،أو في حراسة،أو جندي في الجيش،أو شرطي في سلك الشرطة، أو عاطل بلاعمل، يتسكع على الشوارع يطلب البركات، أو يعتمد على قريب أو بعيد من ذوي النوايا الطيبة.
هذا الشخص الذي قد تكون قريب عهد به،وفرقت بينكما المشاغل أو الظروف التي نادرا ما تكون وراء انفصام الروابط وتباعد الأشخاص، في مرحلة معينة من الحياة،ستصطدم بنوبة من الارتباك، والذهول، وهو يوقفك فجأة يستقل آخر طراز تصنعه أعلى شركات تصنيع السيارات،ويلبس آخر ما استحدثته أنامل الخياطة في أجود أنواع قماش "البزاه"،وتفوح منه روائح العطور الباريسية، وبيده آخر صيحة من صناعة الأندرويد، وكأن هذا الشخص استيقظ وإذا به يتحكم في جني خاتم سليمان،يأمر فيطاع.
هذا الشخص وأشكاله يتكاثرون تكاثر الباعوض في غابات الأنهار، وهم الذين بأيديهم مفاتيح الأبواب والمنافذ التي تقود إلى قلب قادة النظام من وزراء ومدراء وضباط،وينتشرون بين مناكب العاصمة وخارجها في نواذيبو.
أحد هؤلاء استوقفني بينما كنت أمر من أحد شوارع حي"سانترأمتير" بتفرغ زين عائدا من الجامعة الجديدة..أطل علي من نافذة سيارته الفخمة بوجهه المستطيل،وعيناه الغائبة خلف نظارات سوداء... كان يناديني باسمي،فعرفت أنه يعرفني ،لكن ملامح وجهه، والسيارة المفارهة التي يستقل، وملابسه وعطره، وهاتفه، كل هذا كان غريبا علي، فأنا لا أعرف أحدا لديه سيارة بهذا الشكل، ويشتري ملابسا وعطرا بهذه الجودة، فكل الذين أعرفهم ويعرفوني من الطبقة الكادحة بالكاد بعضهم يملك سيارة "بيجو"،أو "رينو".. ملامح وجهه كانت تقترب من ملامح شخص عرفته في فترة من حياتي المهنية،نشال،يختطف حقائب النساء في سوق العاصمة، والميناء، والسبخة، ويقطع جيوب ركاب الباصات وسيارات الأجرة في أوقات الازدحام،ثم رافق عصابة تعرف عليها في السجن تسرق المحلات التجارية، وتسطوا على المارة وتجبرهم على خلع ثيابهم، وتسلب ما في جيوبهم من مال وهواتفهم.
كانت الصورة الغريبة تكبر شيئا فشيئا، لتتجلى واضحة صورة الشاب الذي كان لا يخرج من السجن حتى يعود إليه بسبب جرم آخر.. وتأكد لي أنه نفس الشخص عندما نزل من سيارته ليصافحني، ويقدم لي نفسه أن "فلان الذي كانت...؟"والآن صرت رجل أعمال، أمتلك مجموعة من الشقق بعضها في نواكشوط وبعضها في نواذيبو، ويعود علي النشاط الذي أمارس بالأرباح والعلاقات الواسعة في الداخل بأكبر رجال النظام، والأعمال، وفي الخارج علاقتي واسع بين الأمراء في الحليج ورجال الأعمال، أسافر في الأسبوع مرتين ، وتارة أربعة أسفار..وليؤكد لي صحة ما قال، اتصل على شخص في مكانة مرموقة ورفع مكبر هاتفه ليطلعني على المحادثة،كان صوت المسؤول يتأرجح وهو يرحب بالشخص ويعلن استعداده لتقديم الخدمة التي يطلب،ثم قال له الشخص،بل أردت أن أصبح عليك، وأعرف حالك..وعاد الشخص إلى سيارته،واختفى كما يختفي البرق الخاطف.
علمت بعد ذلك أن الشخص دخل في شبكة للقمار والمتاجرة بالجنس،وتتلمذ على مجموعة من المخنثين،كانت تنشط وتهيمن على أوكار الدعارة قبل أن يغيبهم الموت،وأن الشخص استطاع بذكاء أن يجمع بين المهنتين لعب القمار وبيع الجنس،فأستأجر منازل متفرقة وزعها بين جناح لعب القمار، وجناح للمتاجر بالجنس،وارتقى عبر هذه سلم هذه المهنة إلى شخصيات نافذة أمنت له أوكاره من الأمن،وفتحت له المسالك واسعة نحو الثراء والسلطة.
من موقع الحوادث