تفاجأ الوالد، واستغرب قرار الوالدة التي رفضت ذهاب الطفل عندما دخل سنته السابعة، وحاول أن يستفسر منها عن سبب قرارها، لكنها رفضت الكشف له، وألح على الخادم التي أسرت إليه بأن الطفل ذاهب في طريق الانحراف، وما تبين لوالدته من  مرافقته للأطفال الضائعين في الشوارع، وانقطاعه عن معلم القرءان، ونتائجه السيئة في المدرسة، وشكاوي الإدارة ا المتكررة من شغبه.. غضب الوالد غضبا شديدا، وصب اللعنات على مَنُ التي كانت سببا في فساده، ولم يتمالك نفسه وخرج عن رزانته وهدوئه، ودخل على الطفل في غرفة من المنزل وهو يتطاير من الشرر وضربه ضربا مبرحا، لم منه منه تدخل مَنُ التي رفعها بعيدا حتى سقطت على الأرض..وبعد أيام أخذ الوالد ولده وسافر به إلى قرية نائية لا يصلها النقل الحضري، وأوصى المدرس في المحظرة أن يعتني به، ويتابعه متابعة دقيقة، ويحرص على أن تدريسه القرءان حتى يحفظه، وبعد ذلك يعلمه ما تيسر من العلوم الشرعية والعربية.. وترك الوالد ابنه في عهدة ناظر المحظرة وشيخها، وفي أحشائه  تعبث نيران الأسف والحسرة على غفلته عن ابنه، ورقته التي أثرت عليها عواطف زوجته.

مر الزمن سريعا على الأسرة التي لم تعد تلتقي إلا نادرا بسبب الانشغال الذي فرقهما، فقد قاد توسع تجارة الوالد إلى أن يحوز إلى مملكته التجارية محلا فخما في قلب العاصمة يضم مكاتب للاستراد، ومستودع في كل منكب من مناكب المقاطعات تغذي محلاته التجارية المتنوعة بالبضائع، واستدعت منه الظرفية الجديدة السفر لعقد صفقات وتمثيل شركات كبيرة ،جعلته يكتتب أكثر من عامل ومساعد لتسيير أعماله ومتابعة بضائعه في الميناء وتفريغها في المستودعات والمخازن، وتوزيعها بين المحلات وعلى الزبناء.

...............................

وكما انشغل الوالد انشغلت مَنُ فقد اضطرت بفعل الحركة وتنوع البضاعة إلى البحث عن بضاعة نادرة تستهوي نساء الطبقة التي تستهلك تجارتها، وإلى الحصول على جوز سفر للتنقل بين عواصم الموضة، رفقة زميلات لها فزارت باريس، ومدريد، وبلجيك، ثم دبي.

وبدأت توكأت على نفسها وما خلفته من علاقات، فسافرت بمفردها تطير من باريس لتشتري ما جد من موضة النساء واسبانيا، وتزور دبي ، وتغتني الحلي والجواهر الثمينة من السعودية، واستغرقها عالم الطيران والموضة، وعلاقاتها الجديدة مع عالم آخر جعل وقتها ثمينا، فتقلصت فرصة وجودها بالمنزل.

بدأت الهجرة تنخر حي المزارع بالسبخة الذي كان جنة الجميع، بما يعيشه سكانه من سعادة وحبور، حيث تسرب إلى المساكن العشوائية في عرفات، وكرفور.. وعرفت العاصمة موجات من الهجرة قادمة من الأرياف، هربا من الجوع والعطش بعد ضرب الجفاف واستحوذ على المزارع التي استحالت على جرداء، وجفت الينابيع وغاضت الآبار، و استعصت الحياة في الصحراء، فتسابق الجميع نحو العاصمة، وفي غضون سنوات قليلة تشكلت أحياء كالأسورة السوداء تطوق المدينة في انتظار تخطيط ينظمها.

..............................

وغادرا الزوجان حي السبخة  إلى حي "ilo k" حيث شيدا منزلا فخما بجوار بعض جيرانهم القدماء الذين رحلوا من السبخة، وخصصت مَنُ جناحا من المنزل الجديد للسمر مع زوارها، فكان مركزا تلتقي فيه الأكابر من الطبقة المتنفذة فيحضر الوزير إلى جانب المدير ورجل الأعمال، ونعش سهرات فرقة شعبية تقليدية، فكانت تنبعث أصوات عربدة الساهرين مع نسمات الليل لتقض مضاجع الجيران، وأخذ المنزل اسم السيدة مَنُ.

لم يعد الوالد ذلك الرجل المسكين الضعيف أمام مَنُ تعلبه بنصائحها وإرشاداتها وتنفذ فيه من عقلها، فقد غير الثراء الفاحش نظرته، وألهمته حياته الجديدة الاعتماد على نفسه وصناعة ذات له مستقلة عن مَنُ، ووجد في الفرجة التي يقضيها في أسفاره متسعا لفصم الارتباط النفسي بها... ومع ذلك ظل غير قادر عن الاستغناء عن مساعدة زوجته التي يعتمد عليها في رفع الضرائب والجمركة عن بضائعه وتسهيل عمل التوريد، ومع تبرمه من واقعه في المنزل  ومقته  لتصرفات زوجه ظل مجبر على كتم غيظه ومجاملة زوجته......تابع