شهدت بلادنا في السنوات الأخيرة انتشارا ملحوظا لمراكز التداوي بالأعشاب والرقية الشرعية التي تكاثرت كالفطر في أنحاء البلاد و أصبح الترويج لها بضاعة غير مزجاة لدى القنوات التلفزية الناشئة .
و قد تهافت الكثير من الناس على ارتياد هذه المراكز طلبا للا شتسفاء من أمراض عضوية ونفسية
أو التماسا لجلب الحظ و النجاح. ولم تزل الأخبار تتوالى عن مآس و كوارث تعرض لها مواطنون جراء تعاملهم مع بعض هذه المراكز.
لا بد أن لهذه الظاهرة الجديدة أسبابا سيكون منها ضعف أداء المؤسسات الصحية العمومية و غلاء التداوي في المصحات الخصوصية ،وتدني الثقافة الدينية والصحية لدى الكثيرين من مرتادي هذه المراكزمما يجعلهم يقعون غالبا في حبائل بعض الدجالين والمشعوذين من القائمين على هذه المراكز.لكن كل هذه العوامل ماكان لها ان تنتج الظاهرة على نطاق واسع لو أن السلطات المختصة تحملت مسؤليتها تجاه المواطنين وأصدرت التشريع و النظم الكفيلة بتنظيم هذا الحقل الخطير الذي يمس بصورة مباشرة عقائد المواطنين وصحتهم و أموالهم .
لا يمكن لأحد ان ينكر وجود طب تقليدي موريتاني أصيل ينبني على قواعد علمية قديمة وتجارب معتبرة يمارسه أشخاص نابهون من عائلات معروفة وما زال يحقق بعض النجاحات رغم محدودية وسائله و قصوره أمام العديد من الأمراض.كما لا يمكن إنكار وجود أصل شرعي للرقية الشرعية أو وجود رقاة شرعيين جدراء بهذا الا سم أثبتوا نجاحهم في بعض الحالات .لكن ترك المجال مفتوحا أمام كل من هب ودب ليمارس هاتين الصناعتين الخطيرتين دون مؤهلات حقيقية و لا تزكية من خبراء ثقاة في المجال هو تخل عن المسؤولية وتفريط في مصلحة المجتمع.
إن الممارسة الفوضوية دون ضبط ولا تنظيم لمهنتي التداوي بالأعشاب والرقية الشرعية (غالبا ما يجمع المدعون الكذبة بينهما دون تمييز) قد أنتج أضرارا جسيمة في مجتمعنا نذكر منها على سبيل المثال:
11- تشويه الدين الاسلامي حيث يزعم المدعون لهاتين الصناعتين أنهم يقدمون ما يسمونه زورا ( الطب النبوي) ويحيطونه بهالة من الترويج و الخوارق لإيقاع ضحاياهم من المساكين الجهلة.ولا يكتفون بذلك بل يجعلون لمحلاتهم أسماء دينية متميزة في غفلة تامة من السلطات البلدية عن ممارسة دورها في تنظيم التسميات و العناوين حتى لم يعد من الغريب ولا النادر أن نمر يوميا على بقالة (الله أكبر)ومجزة ( الإسلام ) ومجمع (لا إله إلا الله ).إن ترك الباب مفتوحا أمام هذه الفوضوية في الادعاءات الوقحة التي تشوه الدين هو من أسباب وقوع بعض شبابنا في شباك الملحدين والزنادقة حيث أن هذه الممارسات التي يجعل أصحابها السخفاء من الدين مطية لتحصيل مكاسب مادية فانية .تكون في أذهان بعض الناشئة صورة نمطية سلبية عن المتدين والسمت الديني ( اللحية واللباس الزهدي ) تمثله بذلك الشخص الانتهازي الدجال .وهو ما قد يغض من هيبة العلماء والمتدينين في نفوس الجيل الناشئ.
إن النبي صلى الله علبه وسلم بعث هاديا و مشرعا لا طبيبا وكل ما يصح عنه عليه الصلاة والسلام من توصية بعشب أو نبات أو تصرف في السلوك قصد التداوي فهي إرشادات صحيحة بأبي هو وأمي، لكنها قضايا فردية لم يكن القصد منها وضع منظومة طبية قائمة بذاتها كما هو واضح لمن درس السنة النبوية.ثم إنه صلي الله عليه وسلم أمر بالتداوي ونصح بعض أصحابه بالاستشفاء عند بعض أطباء عصره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ومن هنا تتضح المغالطة والتشغيب في إطلاق مصطلح (الطب النبوي ) كمقابل أو قسيم لعلم الطب الاصطلاحي.
22-تعريض حياة المواطنين وصحتهم البدنية والنفسية للخطر .حيث أن منتحلي هاتين الصناعتين لا يترددون في إعطاء أدوية مفردة أو مركبة للمترددين إليهم من المرضى دون أي فحوص مسبقة ولا احتياطات ولا مراعاة لمقادير الجرعة العلاجية ونسبة السمية في العشب .وهذا ما أصبح ملحوظا لدي ضحايا هذه المراكز حيث يتفاقم لديهم المرض الأول و يمنون بأمراض أخري او اختلالات عضوية طارئة قد تصل إلى الفشل الكلوي أحيانا.أما الرقاة الدجاجلة والسحرة فيقومون بنوع من غسيل الدماغ لضحاياهم عن طريق الإيحاء إليهم بأن ثمة أعداء يتربصون بهم ويكيدون لهم والخطير أنهم قد يقنعونهم بأن هؤلاء الأعداء من أقاربهم أو خلص أصدقائهم أو جيرانهم.ورحم الله شوقي اذ يقول:
داويت متئدا وداووا طفرة....وأخف من بعض الدواء الداء.
3- هدر أموال المواطنين وأوقاتهم فى السعي الي شراء أوهام خائبة وخدمات زائفة يعرضها هؤلاء المشعوذون وتروجها لهم قنوات ناشئة في غفلة أو تغافل من السلطة العليا للسمعيات البصرية والصحافة.
44- الإضرار بمصالح الأطباء المجازين الذين أنفقوا سنوات من شبابهم في الدراسة والتحصيل وبمصالح العيادات الرسمية العامة والخاصة التي تدفع الضرائب وتوفر فرص عمل .وذلك بالمنافسة اللاقانونية التي يمارسها منتحلو طب الأعشاب والرقية الشرعية ضد تلك الهيئات المرخصة .
إن الحاجة قد أصبحت ملحة إلى إصدار قانون ينظم التداوي بالأعشاب و ممارسة الرقية الشرعية. وينبغي - في نظرنا - أن يتوخى هذا القانون أهدافا و يتضمن مبادئ منها:
1- أن يفرض حصول أي ممارس لهاتين الصناعتين أو إحداهما على ترخيص تمنحه هيئة من الخبراء الثقاة في المجال على أساس معايير موضوعية تتعلق بالخبرة والنزاهة و الكفاءة ولا تشوبها شائبة محاباة او انحياز فئوي أو قبلي أو عائلي أو جهوي.
2- أن يتضمن القانون عقوبات زاجرة لكل من يمارس هاتين الصناعتين أو إحداهما دون ترخيص.
33- أن يضيق القانون مجال ممارسة الرقية الشرعية بأن يجعل التعاقد بين المريض والراقي يقوم على أساس التزام بتحقيق غاية ( بمعنى ان الراقي لا يستحق أي شئ على المريض إلا بعد حصول النتيجة ) وهو ما يختلف عن الالتزام ببذل عناية كما هو حال التزام الطبيب الرسمي المجاز. ولهذا الاقتراح أصل في فقهنا الاسلامي هو (مشارطة الطبيب على البرء ) وهي جائزة على الراجح تخريجا لها على الجعالة .وإذا دفع المريض مبلغا الى الراقي الشرعي ولم تحصل النتيجة فعلي الراقي إرجاع المبلغ الى المريض وجوبا.
4-أن يضع هذا القانون قيوداعلى الترويج لمراكز التداوي بالأعشاب و الرقية الشرعية المرخصة.وذلك بالتشاور مع الجهات المختصة. تلك عجالة أردت من خلالها إثارة هذا الموضوع الهام وأرجو أن يشارك الجميع في الدعوة الى إيجاد معالجة سريعة لهذه الظاهرة الخطيرة.