للديمقراطية، كما لكل منظومة، أبجدياتها. ولعل أكثر تلك الأبجديات بداهة هو وجود أغلبية تحكم لتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي زكاه المقترعون ضمن برامج أخرى حازت أقلية من الأصوات تُصنف أصحابها معارضة. وقد حددت مساطر الديمقراطية بشكل دقيق ومبسط واجبات الأغلبية، ودور المعارضة.
رغم بداهة كل هذا، يلاحظ قارئ مقال “نريد حوارا جادا لا تشاورا مرتبا” أن في نخبتنا السياسية من يؤلف على غير مثال سبق، حين ينظر في الفكر السياسي ل”نازلة” الفرق بين الحوار والتشاور. يختار الدكتور عبدوتي المقارنة منهجا لعرضه المبسط. وهي مقاربة مدرسية محدودة النجاعة لترديها بين حدين يتم بناء كل واحد منهما بطريقة تبرز التشابه، أو الاختلاف، حسب حاجة البنّاء. وقد أملى على الدكتور موقعه السياسي بناء الحدين على التضاد، فأجمل مثالب التشاور؛ “عمل فني بين قيادة وفريقها”، ليطنب في جماليات الحوار؛ “فهو بين طرفين مختلفين اختلاف المعارضة والسلطة…” يستنتج الدكتور من هذه المقدمة ما يظهر سوء فهمه لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعارضة؛ “ويسعون إلى تقريب وجهات النظر في قضايا خلافية…”!!!
يتصور الدكتور، ومعه كثيرون من نخبتنا المعارضة، “ضرورة” تقريب وجهات النظر بين السلطة والمعارضة، بينما يقوم التنظير للديمقراطية، وممارستها العملية السليمة، على “تعميق” الاختلاف بين السلطة والمعارضة، لأن ما جعل السلطة سلطة هو اختلاف برنامجها السياسي عن برامج الأحزاب التي أصبحت معارضة لأن الناخب لم يختر برنامجها السياسي فميزه بأقلية من الأصوات. في الممارسة الديمقراطية السليمة تحترم المعارضة خيارات الناخب فتستغل المأمورية التي خسرتها لتحسين أدائها، ومراقبة أداء الأغلبية لتنبيه الناخب على نواقصها، وأن المعارضة قادرة على سد تلك النواقص إذا اختارها الناخب في الاستحقاق القادم لتصبح أغلبية.. في الممارسة الديمقراطية السليمة تنفر المعارضة من السلطة لأنها تريد أن تكون بديلا عنها.. لكن معارضتنا تريد أن تنقذ الأغلبية من “الورطة” بإرغامها على الحوار!! “نحن مهتمون بحوار جدي، نقترب فيه من خط وسط…” وهنا تكمن الغرابة! ألستم حزبا سياسيا له رؤيته، وأيديولوجيته المختلفة تماما عن رؤية وأيديولوجية حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وقد فصل الشعب بين الخيارين في انتخابات ديمقراطية شفافة فحمّل حزب الاتحاد مسؤولية إدارة الشأن العام وأسند إليكم دور المعارض الناطح إذا اشتد قرنه، أو الناصح “النافظ”..”فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين”.
“كان حزبنا أول من دعا إلى الحوار بمناسبة تقييم 100 يوم من مأمورية الرئيس غزواني…” وهذا من طرائفكم! فتقييم المائة يوم تقليد عالمي ولم تدع معارضة، في أي مكان من العالم إلى حوار مع الأغلبية بهذه المناسبة، ما يعني أنكم تختلقون المناسبات من أجل الحوار.. “ولم نفوت فرصة دون أن نذكر بذلك”، ويعدد الدكتور تلك المناسبات لتشمل كل أنشطة الحزب..” في البيانات الختامية… في البيانات الظرفية… في مؤتمراتنا الصحفية… وأنشطتنا السياسية ووثائقنا…” ومن ثم يحق للحزب أن يثري شعاره ليصبح “حزب الإصلاح والتنمية والحوار مع الأغلبية”(تواصلحِ).
لكن “شرعنة” الحوار ربما احتاجت إلى “أزمة”؛ فقد التأم “حوار داكار” على خلفية أزمة. وتجري حوارات في بعض بلدان المنطقة بمناسبة أزمات تعيشها، لكن “البلد لا يعيش أزمة”، كما “يشير البعض”. يجد الدكتور منطلقا مناسبا للحوار من هذه الإشارة؛ فإذا كان البعض يتحاور لأن لديه أزمة، فمن واجب الأغلبية أن تحاور المعارضة لمعرفة ما إذا كانت لدينا أزمة أم لا؟ “هذه من أهم النقاط التي يجب أن تناقش في الحوار لا أن تحسم قبله…”، وبذلك تغدو المقدمة نتيجة معلومة سلفا لأنها مصادرة على المطلوب على طريقة (تنتاكْ تارَ). لا ينتظر الدكتور نتائج الحوار، وإنما يبادر إلى تعداد مسهب ل”أزماتنا” منتهيا إلخْ، بكل ما تحمل من اشمئزاز!!! إذا عدنا، بعد مضمضة وتحلية، إلى حزمة “الأزمات” (أنظر المقال) وجدنا أن تعريف الأزمة السياسية التي تستوجب حوارا لا ينطبق على أي منها.. “تعني الأزمة السياسية موقفا مفاجئا يهدد بتحول جذري في الوضع القائم بسبب المفاجأة وضيق الوقت المتاح لاتخاذ القرار، والتهديد القائم للمصالح الحيوية.” فليس في حياتنا السياسية موقف مفاجئ، ولله الحمد؛ فمؤسسات الدولة تمارس أنشطتها ضمن الشرعية الدستورية، وفي مراعاة للقوانين السارية.. ولا نعاني ضيق وقت فما بقي من المأمورية أكثر مما انقضى.. ولا نتعرض لتهديد، داخلي أو خارجي، لمصالحنا الحيوية… فأين تكمن “الأزمة”!! اللهم إلا إذا كان غياب الأزمة يشكل أزمة للباحثين عن مبرر للحوار يبعدون به شبح التشاور…
في مثل هذه الفرضيات التي يعددها الدكتور تدعو المعارضة إلى انتخابات سابقة لأوانها لأنها تفترض تآكل شعبية الأغلبية الواقعة في “ورطة”… لكن معارضتنا لم تدع يوما إلى انتخابات مبكرة لإدراكها أن شعبيتها إذا لم تنقص فهي لا تزداد، وإنما يدعون إلى الحوار للحصول على مكاسب من الأغلبية يضيفونها إلى مكاسبهم من المعارضة!!!
نكتشف في نهاية نص (حورية الحوار) الأهداف الحقيقية للمعارضة.. “لقد طالبت المعارضة في مرات سابقة بضرورة حكومة توافقية تعكس حسن نية السلطة في الوصول إلى توافقات…” عجبا لكم!! ما الداعي إلى حكومة توافقية حين يمتلك النظام أغلبية ساحقة في البرلمان، والمجالس الجهوية، والبلديات!! ولماذا يريد الوصول إلى توافقات مع معارضة لا تكاد تمثل 20% من الكتلة الانتخابية!!
لقد منعكم الشعب، عبر كل الاستحقاقات، من تسيير الشأن العام فلا يحق للأغلبية إسناده إليكم إلا بشرط انسلاخكم من الحزب وأيديولوجيته وتبنيكم، في العلن على الأقل، مبادئ حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وانخراطكم في النضال في صفوفه. وليس الترحال عليكم بغريب؛ فقد اشتد الزحام، والتطواف حول الحمى حتى شق علينا تخير “الراشدين” منكم.. فأبشروا، وأملوا، وتحاوروا في النفرة، أو تشاوروا فيها…