المتأمل في الأزمة الغامبية وفي تفاعلاتها سيجد بأن هناك جملة من المفارقات التي صاحبت هذه الأزمة، وهي مفارقات تستحق في مجملها أن نتوقف معها بشيء قليل من التأمل.
المفارقة الأولى: أن الرئيس السنغالي الذي لم يكن عسكريا
في أي وقت من الأوقات، والذي وصل إلى السلطة بطريقة ديمقراطية لا لبس فيها كان هو من يرفض الحوار وكان هو من يحمل لواء التدخل العسكري في غامبيا، في حين أن الرئيس الموريتاني الذي كان عسكريا ،وإلى وقت قريب، إن لم أقل حتى الآن، والذي كان قد وصل إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري، هو الذي يحمل الآن لواء الحل الدبلوماسي والسلمي للأزمة الغامبية.
إن التأمل في هذه المفارقة سيسمح لنا بالقول بأن الرئيس السنغالي لا يسعى بتدخله العسكري هذا لإقامة ديمقراطية حقيقية في غامبيا، وإنما يسعى لتصفية الحساب مع عدوه اللدود الرئيس الغامبي السابق، والذي كان قد ألغى بعد وصوله إلى السلطة الاتحاد "السنغامبي"، والذي كادت السنغال بموجبه أن تبتلع غامبيا. إن السنغال بتدخلها العسكري هذا، لا تريد إقامة ديمقراطية حقيقية في غامبيا، وإنما تريد استعادة نوع من الوصاية والسيطرة على هذا البلد الصغير.
وفيما يخص الرئيس الموريتاني، فإنه هو أيضا لا يسعى بوساطته وبحلوله السلمية إلى إقامة ديمقراطية حقيقية في غامبيا، ففاقد الشيء لا يعطيه، وإنما يسعى إلى حماية صديقه الرئيس السابق لغامبيا، بل أكثر من ذلك فإنه يمكننا القول بأن الرئيس الموريتاني كان يفاوض عن مصيره الشخصي في غامبيا، وهو كان يتمنى أن يتمكن الرئيس السابق من البقاء في السلطة حتى من بعد فشله في الانتخابات، ولما ظهر بأن ذلك مستحيلا، عرض وساطته التي مكنت الرئيس السابق من أن يخرج من السلطة بأموال ضخمة وبضمانات قوية تحميه من أي عقوبة، بل وتتيح له العودة إلى بلده وإلى ممارسة السياسة مستقبلا.
لستُ بحاجة لأن أقول لكم بأن الرئيس الموريتاني يفكر الآن في البقاء في السلطة إلى ما بعد 2019، وإن تعذر عليه ذلك فإنه سيفكر في الخروج منها بأقوى ضمانات كما حدث مع الرئيس الغامبي السابق.
المفارقة الثانية : أن الرئيس الغامبي المنتخب، والذي صوتت له أغلبية الشعب الغامبي وذلك في ظل حكم الدكتاتور السابق وفي ظل منافسته لم يستطع أن يعود إلى بلده وأن يطلب الحماية من شعبه حتى من بعد خروج الدكتاتور يحيى جامي ولجوئه إلى غينيا الاستوائية.
لقد قدم الشعب الغامبي درسا رائعا من خلال تصويته ضد دكتاتور لا يزال يمارس الحكم، ولقد قدم بعض المسؤولين الكبار في غامبيا دروسا رائعة بعد أن أعلنوا عن نتائج انتخابية في غير صالح الدكتاتور، وقدم الوزراء وكبار المسؤولين الذين استقالوا عندما قرر دكتاتور غامبيا أن يتراجع عن اعترافه بالنتائج دروسا رائعة ..لقد قدم كل أولئك دروسا رائعة، ولكن وللأسف، فإن الرئيس المنتخب لم يكن على قدر المسؤولية، وذلك عندما قرر أن يعود إلى بلده تحت حماية جيش أجنبي بدلا من حماية الشعب الغامبي الذي انتخبه بالأكثرية.
إن الرئيس الغامبي الجديد، وهذا ما ظهرت بوادره من خلال تصريحاته، سيكون أكثر ولاءً للجيش السنغالي منه إلى الشعب الغامبي، وهو عندما يتخذ غدا أي قرار فإنه سيفكر في المصلحة السنغالية من قبل التفكير في مصلحة الشعب الغامبي.
من هنا فإن رفض التدخل العسكري السنغالي قد لا يكون انتصارا للرئيس الغامبي السابق، وإنما انتصارا للديمقراطية وللشعب الغامبي، ولقد أثبتت تجارب عديدة بأن العسكر عندما يتدخلون بالقوة لفرض الديمقراطية، فإنهم قد يتسببون في فقدان الديمقراطية والأمن معا، ويتأكد الأمر عندما يكون الجيش المتدخل لفرض تلك الديمقراطية هو جيش أجنبي.
المفارقة الثالثة: أن الطرف الذي كان من المفترض به أن يحمل لواء الديمقراطية، وأن يحمل لواء التعهد بالالتزامات الشعبية والدولية هو الذي يخالف اليوم تلك الالتزامات والتعهدات، وهذا هو ما يظهر من خلال العودة إلى نص الوثيقة التي قبل من خلالها الرئيس الغامبي السابق أن يترك السلطة وأن يخرج من بلاده. أما الطرف الثاني الذي كان من المفترض به أن يخل بالالتزامات فهو الذي يرفع اليوم وثيقة دولية، وهو الذي يُطالب بالعودة إلى بنود تلك الوثيقة.
إن طريقة خروج الرئيس الغامبي السابق من السلطة، والذي يقال بأنه تراجع عن اعترافه بالهزيمة في الانتخابات بعد أن تم التلويح بمحاكمته، تفرض علينا المزيد من النقاش حول أفضل السبل التي يجب إتباعها لإخراج الدكتاتوريين من السلطة، فهل من الأفضل العمل على إجبارهم على الخروج من السلطة، مع فرض محاكمتهم ومحاسبتهم على كل الجرائم التي ارتكبوها خلال فترة حكمهم أم أنه من الأفضل أن يسمح لهم بالخروج الآمن من السلطة، وذلك مقابل تغيير آمن، وتناوب سلمي آمن على السلطة. إن هذا الإشكال يستحق الكثير من النقاش، خصوصا وأننا نعلم بأنه عندما تسد كل أبواب الخروج الآمن أمام أي دكتاتور، فإن ذلك الدكتاتور لن يتورع عن إحراق بلده مقابل البقاء في السلطة حتى آخر رمق، والأمثلة على ذلك عديدة ومعروفة.
ومن قبل أن أختتم هذا المقال، وفي ظل التطورات السريعة الحاصلة في الأزمة الغامبية، فإنه لابد من القول بأن الموقف الموريتاني (الرسمي والشعبي) من هذه الأزمة ومن تطوراتها يجب أن يرتكز على النقاط التالية :
1ـ أن التدخل العسكري لن يكون في مصلحة الشعب الغامبي، ولا في ديمقراطيته، ولا في أمنه، ولذلك فإنه علينا في موريتانيا (حكومة وشعبا ) أن نرفض التدخل العسكري السنغالي والنيجري في غامبيا.
2ـ في المقابل، فإنه علينا جميعا أن نرفض أي تدخل عسكري موريتاني في هذه الأزمة، وعلى من يدعو إلى مثل ذلك التدخل إن يعلم بأن ذلك التدخل لن يكون في مصلحة موريتانيا، ولا في مصلحة المنطقة.
3 ـ علينا حكومة وشعبا أن نرفع لواء الحلول السلمية والدبلوماسية للأزمة الغامبية، وعلينا أن نضغط بكل وسائل الضغط المتاحة حتى تتم العودة إلى بنود الاتفاقية التي خرج بموجبها دكتاتور غامبيا السابق من السلطة.
4 ـ إن حماية الجالية الموريتانية في غامبيا هي من مسؤوليتنا جميعا : حكومة وشعبا.
حفظ الله موريتانيا
بقلم/ محمد الأمين ولد الفاضل