تُعدّ اللّغة مظهر من مظاهر الثّقافة وركن أساسي لها، لأنّها وعاؤها و وسيلة التي من خلالها يستطيع الفرد أو مجموعة من المجموعات، أو مجتمع من المجتمعات إظهار ثقافته سواء عن طريق النّطق، أم عن طريق الكتابة. كما أنّ اللّغة أهمّ المميزات التي تُميّز الإنسان عن غيره من الكائنات. ولذلك
نرى الأمم الحيّة تتسابق إلى نشر لغاتها وفرضها على الآخرين، عن طريق القوّة الخشنة أحيانا، وعن طريق القوى النّاعمة في أحايين أخرى على شكل منح ومساعدات سواء المادّيّة أم الثّقافيّة عن طريق محاربة الأميّة والجهل باستخدام لغاتها الخاصّة، دون الالتفات إلى لغات تلك المجتمعات المحلّيّة التي يريدونها تنميتها أو محو أمّيّتها، رغم علمهم أنّ أقصر طريق إلى محاربة الأميّة هو استخدام لغة الأمّ.
ومن هنا تأتي أهميّة لغاتنا الوطنيّة؛ إذ أنّها تستطيع أن تلعب دورا كبيرا في تقليص الأميّة والجهل في وطننا العزيز، وتساهم في تنمية المجتمعات المحلّيّة، إذ ثبت بالتّجارب أنّ أيّ خطط أو مشاريع التنمية إذا لم تبدأ بالإنسان؛ تعدّ ناقصة وفاشلة، وتنمية الإنسان لا بدّ ان تبدأ بتعليمه منذ الصّغر أو محو أمّيّته وهو كبير، حتّى يتسنّى له القيام بتنفيذ خطط التنمية بنفسه، لأنّه (الإنسان) هو الهدف والوسيلة للتنمية في نفس الوقت. وأسهل الطّرق في تعليم الإنسان ومحو أمّيّته، أو رفع مهاراته وقدراته الذهنيّة والأدائيّة؛ هو تدريبه باستعمال لغته الأمّ، وهو ما درج عليه كثير من المنظّمات غير الحكوميّة الجادّة التي لا تستهدف خلال عملها غير مساعدة المجتمعات التي تنشط فيها، وحتّى تلك المنظّمات والجمعيّات التي تستهدف التّأثير دينيّا أو ثقافيّا على المجتمعات، على سبيل المثال الجمعيّات التبشيرية المسيحيّة (بروتيستانتيّة على وجه الخصوص) يستخدمن اللّغات المحلّيّة لاختصار المسافة، وهو ما لم يفهمه أو تجاهله كثير من الدّعاة المسلمين الذين يجبرون المسلمين الجدد على تعلّم اللّغة العربيّة دفعة واحدة، رغم معرفتهم بصعوبتها وتعقّدها حتّى على المتخصّص، فضلا عن المبتدئ، ممّا يجعل الكثير منهم ينفر من الدّين الإسلامي مع رغبته في الدّخول فيه والانتماء إليه.
أعتقد أنّ الدولة الموريتانيّة بإمكانها الاستفادة من اللّغات الوطنيّة، بتطويرها وتطويعها حسب توجّهاتها وسياساتها وتحويلها إلى عامل القوّة، وذلك إذا توفّرت الإرادة لدى صاحب القرار، وخاصّة في هذا التوقيت الذي يُتحدّث فيه عن الوحدة الوطنيّة والمجالس الجهوية، التي لا شكّ ستلعب اللّغات الوطنيّة فيها دورا كبيرا من ناحية توعية الجماهير، وشرح توجّهات وسياسات الدّولة لهم؛ لكي يكونوا على دراية تامّة بخطط ومشروعات الدّولة التي تهدف إلى تحقيق مصالحهم هم. حينها سيقفون كلّهم إلى جانبها ويساهمون في تنفيذ تلك المشاريع، إذ أنّ كثيرا منهم يعارضون خطط الدّولة انطلاقا من جهلهم بها، لأنّها لم تُشرح لهم بشكل كاف، أو باللّغة التي يستوعبونها، وعادة ما يتمّ التّواصل معهم باللّغة الفرنسيّة التي لا يفهمها منهم إلاّ قلّة قليلة جدّا. لتحقيق هذا الغرض؛ يمكن استغلال الشّباب من النّاطقين بتلك اللّغات الوطنيّة المتعلّمين سواء بالعربيّة أم بالفرنسيّة، ويتمّ تدريبهم على تعليم بني جلدتهم غير المتعلّمين، بلغاتهم الأمّ، ويكون البرنامج الذي سيتمّ تدريسه موضوع من قبل الدّولة، أو من قبل المتخصّصين الآخرين بعلم من الدّولة. ولا يقتصر التعليم والتّدريب على تعليم الكتابة والقراءة فحسب؛ إنّما يكون برنامجا واسعا يتمّ فيها إلى جانب تعليم اللّغة (القراءة والكتابة)، تدريب على الحرف كالخِياطة والنِّجارة وزاعة الخضروات والفواكه، وكذلك تربية الحيوانات والدواجن، وإقامة مشاريع تجاريّة صغيرة التي تَدِرّ بالدّخل، لتشجيعهم على الاستمرار. هناك دول أفريقيّة جرّبت هذا الأمر، منها السّنغال وبوركينا فاسو على سبيل المثال، وكانت تجاربها ناجحة جدّا.
كما يمكن الاستفادة بتلك اللّغات أيضا في المحاكم وفي البرلمان، بتدريب المترجمين من العربيّة الرّسميّة إليها وبالعكس. صحيح أنّ المحاكم قد انتبهت إلى هذا الموضوع منذ فترة واتخذت له تدابير، ولكن يبقى المترجمون فيها غير محترفين ولم يتمّ تدريبهم على الترجمة، وإنّما اعتمدوا فقط على إجادتهم عدّة لغات وطنيّة لا أكثر، أعتقد أنّ ذلك لا يكفي، لأنّ مصطلحات العدالة معقّدة جدّا لا يستطيع أن يترجمها شخص ما ترجمة تؤدّي الغرض إلاّ بالتدريب، وليس الاعتماد على إجادة اللّغات الوطنيّة فحسب. وفي البرلمان؛ إذا كنّا نوفّر الترجمة بين اللغّة الرّسميّة للدّولة واللغة الفرنسيّة التي لا يفهمها من المواطنين أكثر من عشرين في المائة على الأكثر، أليس من الأسهل توفير الترجمة بين اللّغات الوطنيّة الأخرى واللّغة الرّسمية للدولة ويفهم الجميع ما يدور في جمعيّتهم! ألا تعجبون من نائب في البرلمان يقف ويتحدّث باللّغة التي لا يفهمها إلاّ هو وزميله في البرلمان، وأحيانا لا يفهمه بعض زملائه إلاّ بالترجمة! إذا كان هذا شأن البرلمانيّين أنفسهم؛ فما بالكم بالمواطن البسيط غير المتعلّم الذي ساهم بشكل بآخر في انتِخاب السّيّد النّائب الواقف أمام وسائل الإعلام ويتشدّق باللّغة الفرنسيّة، ويستعير العبارات التي لا يستوعبها هو بنفسه، فضلا عن ناخبه المسكين الذي يدّعي أنّه يمثّله!
باعتقادي أنّ على جميع المواطنين بلا استثناء؛ التّكاتف لإيقاف هذه المسرحيّة، وهي استخدام اللّغات التي لا يفهمها إلاّ النّخبة، وكثير منها فاسدة، والعمل من أجل تطوير وتمكين اللّغات الوطنيّة واستخدامها في شتّى مرافق الدّولة، وتدريب المترجمين بينها وبين اللّغة الرّسميّة للدّولة (العربيّة)، بدلا من الاعتماد على الفرنسيّة. أؤكّد على أن هذا لا يعني الدّعوة إلى هَجر الفرنسيّة أو أيّة لغة أخرى، بل يجب على الجميع تعلّم كلّ لغة تربطه بالعالم الخارجي وتوصّله إلى معلومة، وخاصّة إذا كانت من اللّغات العالميّة المهمّة التي تُعَدّ وسائل وأدوات تكنولوجيا وعلم الحديث في عصرنا الحالي. ولكنّ ذلك لا يعني جعل تعلّم تلك اللّغات هدفا في حدّ ذاته، وهجر لغاتنا الأمّ أو إهمالها وعدم التّواصل بها فيما بيننا...
بقلم/ عبدولاي يريل صو